الإثنين 02 حزيران , 2025 12:59

بريطانيا تعيد قراءة المشهد: صنعاء قوة أمر واقع

بعد أشهر من الحديث عن احتمالية هجوم بري مدعوم دولياً لابعاد حركة أنصار الله عن الساحل الغربي لليمن، وصلت هذه المراهنات إلى نقطة مسدودة، مع غياب الركائز الأساسية لها، تعود معادلات القوة في البحر الأحمر لترسخ واقع استراتيجي جديد، مع بروز فاعل من خارج النسق التقليدي للنفوذ. فعلى الرغم من تصنيف الحركة من جديد، كمظمة "ارهابية"، تجد الأطراف الكبرى نفسها مضطرة لفتح قنوات التواصل وعقد الاتفاقيات لتأمين ما عجزت واشنطن عن تأمينه، كبريطانيا مثلاً.

لم يكن تصريح عضو المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، بشأن السماح بمرور حاملة الطائرات البريطانية "HMS" عبر البحر الأحمر، حدثاً عابراً. فالرسالة تتجاوز شكلها العسكري البحري، لتصل إلى عمق معادلات الشرعية والاعتراف. قوات صنعاء لم تُشرع مرور القطعة البريطانية عبر مشاورات مع لندن أو واشنطن أو حتى عبر مظلة خليجية، بل بوصفها القوة التي تمسك فعلياً بمفاتيح الأمن في البحر الأحمر، وهي التي تقرر مَن يعبر ومتى، وفق رؤيتها للصراع الأوسع المرتبط بغزة.

في تغريدته على منصة اكس، شدّد الحوثي على أن السماح بالعبور مرهون بعدم القيام بأي نشاط عدائي، وبضمان ألا يشكل هذا المرور تهديداً مباشراً للعمليات العسكرية اليمنية المساندة لغزة. وهذا في ذاته يكرّس وضعاً لم يكن وارداً في الحسابات الغربية: الاعتراف الضمني بصنعاء كقوة أمر واقع ذات نفوذ بحري ممتد، وقادرة على فرض شروطها في المياه الدولية.

بتعبير آخر، لم تعد صنعاء تلك "الميليشيا المعزولة" كما وُصفت لعقود، بل أصبحت نقطة اتصال إلزامية لأي تحرك عسكري في الممرات الحيوية للنفط والتجارة. والمفارقة أن الإدارة الأميركية، التي أعادت تصنيف أنصار الله كـ"منظمة إرهابية"، تجد نفسها اليوم مجبرة على التعامل معها كقوة تمتلك من القدرات والشرعية الميدانية ما يجعل تجاهلها مستحيلاً.

منذ أيار/مايو الماضي، نفذت صنعاء 22 عملية عسكرية ضد كيان الاحتلال، واصفة هذا الشهر بأنه "الأكثر إيلاماً" لتل أبيب. وهذه العمليات لم تقتصر على الطابع الرمزي، بل أثبتت قدرتها على فرض تحدٍّ عملياتي فعلي، ما دفع بعض الدوائر العسكرية الإسرائيلية إلى الاعتراف بخطورة "الجبهة البحرية" الجديدة. وهنا تكمن أهمية ما نقلته صحيفة "هآرتس" العبرية عن عدد من الخبراء الغربيين والإسرائيليين.

تشير الباحثة البريطانية إليزابيث كيندال، رئيسة كلية جيرتون في جامعة كامبريدج، إلى أن صنعاء تمتلك ثلاث مزايا استراتيجية: الجغرافيا، والخبرة، والعقيدة. فالمعاقل الجبلية شمال البلاد، وخاصة في صعدة، تمنح قادة أنصار الله غطاءاً طبيعياً ومزايا استخباراتية هائلة. وبحسب كيندال، فإنهم راكموا خبرة قتالية على مدى أكثر من عقدين، صمدوا خلالها أمام واحدة من أشرس الحملات الجوية بقيادة السعودية، وتجاوزوا تكتيكات الإنهاء السريع للصراعات.

اللافت أكثر في تحليل كيندال، هو إشارتها إلى أن قوات صنعاء "متسامحة للغاية مع الخسائر"، وتملك ما تفتقر إليه غالبية الجيوش النظامية: نفسٌ طويل، وعقيدة قتالية مبنية على الإيمان بجدوى المعركة. هذا البعد العقائدي تبني عليه الباحثة نبال نسيم لوفتون، من مركز موشيه ديان وجامعة تل أبيب، مشيرة إلى أن أنصار الله "يستمدون شرعيتهم من جذور زيدية دينية ـ سياسية، تؤمن بعدالة القتال ضد الظلم، سواء جاء من أنظمة محلية فاسدة أو من قوى استعمارية".

التحليل المشترك للباحثتين يُبرز فشل التكتيك الإسرائيلي التقليدي في التعامل مع هذا النوع من التنظيمات. فالاغتيالات المستهدفة، رغم كونها حجر الزاوية في العقيدة الأمنية لكيان الاحتلال، تبدو غير ذات جدوى في اليمن. فالجغرافيا تُعقّد من تنفيذ العمليات الخاصة، والهيكل التنظيمي اللامركزي لأنصار الله يُقلّل من فعالية استهداف القيادات الفردية.

ما يجري اليوم ليس مجرد مناورة بحرية أو تصعيد عابر. هو تطور استراتيجي يفرض نفسه على كل النقاشات حول اليوم التالي لوقف الحرب على غزة. فحين تُعاد هندسة المنطقة، سيكون من الصعب تجاهل القوة الجديدة التي ظهرت من البحر الأحمر، وفرضت شروطها على لندن وواشنطن وتل أبيب، وأجبرت الجميع على التعامل معها.

بالتالي، فإن تجاهل صنعاء في أي مشروع لإعادة رسم المعادلات الإقليمية سيُعدّ خللاً بنيوياً في الفهم الغربي لتوازنات القوة.  تغيّرت قواعد اللعبة، ومن لم يقرأ خريطة النفوذ الجديدة، قد يجد نفسه يعيد ارتكاب أخطاء أفغانستان والعراق، ولكن هذه المرة من البحر.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور