كشفت الانتخابات الفلسطينية الأخيرة التي أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قرارًا بتأجيلها إلى موعد يحدد لاحقًا -كان من المفترض إجراؤها على ثلاث مراحل بدءًا من 15 أيار المنصرم وصولًا إلى الـ 31 من شهر آب-، عن حجم الانقسامات الداخلية التي تعيشها حركة فتح. هذه الانقسامات ليست وليدة اليوم، فمنذ سنوات مضت والخلافات حول وجود خلفًا لعباس تتفاقم، خصوصًا وأن الرجل اليوم أصبح على شفير الهاوية.
يرى مراقبون بأن عباس هو المطلب الأساسي لكيان الاحتلال، إذ يقدم لهم امتيازات لا يمكن لأحد غيره أن يقدمها، وأبرزها تخليه عن المقاومة ورفضه للعمل العسكري في وجه الاحتلال، إضافة إلى أن يكون عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية مولجة حماية هذا الاحتلال. لكن حدث ما لم يكن بحسبان عباس، فعناصر الأجهزة الأمنية هم أبناء الانتفاضة وقد قدموا العديد من الشهداء والجرحى والأسرى.
وكانت عملية جنين خير دليل على ذلك، إذ ارتقى فجر أمس الخميس إثنين من عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد اشتباكات مع وحدة المستعربين (اليمام) إثر اغتيالهم للشهيد جميل العموري من سرايا القدس. هذه الأحداث تعيدنا بالذاكرة إلى مقالٍ كان قد كتبه المثقف المشتبك باسل الأعرج، بعد أن قام الشهيد أمجد السكري في الـ 31 من شهر كانون الثاني عام 2016 بتنفيذ عملية ضد قوات الاحتلال عند حاجز "بيت إبل"، وهو رقيب في الشرطة الفلسطينية كما كان أول شهيد للأجهزة الأمنية الفلسطينية في انتفاضة السكاكين التي اندلعت في العاشر من أيلول 2015.
ويعود المقال إلى تاريخ استشهاد "السكري" في العام 2016، حيث يتحدث الأعرج في مقاله عن الصراعات التي كانت تشهدها السلطة الفلسطينية في تحديد خليفة لـ "أبو مازن" التي كانت تحتل المشهد آنذاك، حتى جاءت "عملية الشهيد السكري لتتفّه كل تلك الصراعات".
ولأهمية الموضوع نعيد نشر مقال للشهيد باسل الاعرج...
تفيد الاوضاع التي تمر بها السلطة الان عن وجود صراع عالي الوتيرة بين اجنحة فتح المتصارعة، فقد وصل ابو مازن الى اخر مراحله في رئاسة السلطة، ولقبل أشهر قريبة كان الحديث عن نائب لأبو مازن الا ان الصراع الان انتقل الى مستوى اخر، الصراع الان هو على خليفة ابو مازن.
واي متابع للشأن السياسي يستطيع ان يدرك ان ابو مازن فقد الغطاء الامريكي والعربي بأكمله، ووصل مشروعه الى انسداد حقيقي ولا امل ابدا في ضخ اي فرصة اخرى فيه، لذلك ايضا فقد اهتز القبول الإسرائيلي له ليتحول الى ايقونة شر عند الاحتلال، في محاولة من الاحتلال الدخول من جديد في ماراثون تنازلي جديد يقوده شخص اخر يبدأ من حيث انتهى ابو مازن في تنازله.
الصراع بين اجنحة فتح ليس جديدا على الحركة، لكن وتيرة الصراع ولغته تنبئ بمرحلة جديدة وصلت فيه التوترات حد الاعداد بين تلك الاجنحة لما يشبه الصدام المسلح.
في مثل هذا الظرف ولمحاولة تجنب الصدام الداخلي للحركة والسلطة كان من الضروري حل التناقضات الداخلية عبر ايجاد تناقض جامع يشعر كل تلك الاجنحة بالتهديد، لذلك ارتفع منسوب العداء للأحزاب الاخرى ولشخصيات فلسطينية مستقلة، واخذ التحريض مستويات مرتفعة جدا.
كل ذلك الصراع فعليا لا يهم الاحتلال ابدا ما دام ان قواعد اللعبة لذلك الصراع مفهومة ومقبولة له، وما دام التنافس يقوم على من يستطيع ان يقنع الاحتلال وامريكا واوروبا بأنه الأقدر على القيام بالدور الوظيفي للسلطة، وان كان هناك قلق من تحول الصراع هذا الى صراع مسلح بين اجنحة السلطة لأنه سيخفف من القبضة الامنية للسلطة على المجتمع الفلسطيني، لتأتي عملية أمجد السكري لتقول ان هناك تناقضا رئيسيا لا بد من مواجهته ويتفّه كل تلك الصراعات.
في ظل هذا الظرف المعقد نفذ الشهيد البطل أمجد السكري عمليته، ولا نريد ان نغرق في رمزية مكان العملية وما تشكله في الوعي الفلسطيني بقدر ما اننا نريد فهم ابعاد العملية البطولية للشهيد أمجد السكري.
لم يكن أمجد هو اول عناصر الاجهزة الامنية في هذه الانتفاضة الذي يقوم بعملية عسكرية ضد الاحتلال، فقد سبقه ابطال في هذه الانتفاضة ممن لم يعطوا الدنية في شرفهم العسكري وصانوا الامانة.
كان سؤال الاحتلال مع نهاية انتفاضة الاقصى هو كيف بالإمكان الاعتماد على عناصر الاجهزة الامنية الفلسطينية في حماية أمن الاحتلال، ولم يكن السؤال حول الاجهزة بل حول العناصر، فموقف الاجهزة الرسمي (باستثناء جهاز قوات 17) كان يرفض العمل العسكري ولم ينخرط في الانتفاضة، الا ان عناصر الاجهزة وبأعداد كبيرة انخرطوا مع شعبهم في الانتفاضة ليقدموا الشهداء والاسرى ويذيقوا الاحتلال ويلات وويلات.
كان جواب هذا السؤال عبر الخطة التي وضعها دايتون في اعادة تشكيل الاجهزة، حيث تم ابعاد عدد كبير من الضباط عنها ممن لهم تاريخ عسكري ونضالي سابق عبر سياسة رعاها فياض، كانت السياسة إبعاد هؤلاء ممن لا يأمن العدو جانبهم عبر فتح مجال التقاعد براتب تقاعدي كامل، ليتقاعد عدد كبير جدا من ذوي الخبرة العسكرية وممن يحملون حمولة ايديولوجية لها زخمها، وممن يحملون ذاكرة مشبعة بمواقف البطولة والتضحية من المعارك المتتالية في ساحات المواجهة المختلفة.
وكان الرهان على خلق "فلسطيني جديد" ينتمي للمؤسسة العسكرية صُقل وعيه بما يناسب سياسات "بناء الامة" في الخطة الاميركية، وليتم عبر هذا اعادة تأويل عدد كبير من المصطلحات والمفاهيم، وترافق ايضا مع مفهوم "الاحترافية" التي سعوا الى زرعها في وعي هؤلاء العناصر ليفقدوا العسكرية الفلسطينية الثورية اهم عناصرها، الا وهي الجانب السياسي في الشخصية العسكرية، لأنه من المفروض ان يكون العسكري في اي ثورة يحمل حمولة ايديولوجية وانخراطا بالشأن السياسي قادرا على تعويض الفرق في القوة بينه وبين عدوه. لتبدأ بعد هذه الخطوة تسمع خطاب الاجهزة التي تقول "نحن لا نتدخل بالسياسة"، ليصبح الثائر مثل أي عسكري نظامي آخر في هذا العالم، كذلك تم العمل على اعادة صياغة العقيدة العسكرية الفلسطينية وما لم يستطيعوا الغاءه قاموا بتأويله، وقد كان من شروط هذه العملية لاي منتمي جديد للأجهزة ان لا يكون ذا تاريخ نضالي سابق.
في ظل كل هذه العملية من القصف الذهني المتتالي خرج بعض منتسبي الاجهزة ممن رفضوا هذا، ليكون دليلاً على مناعة اي منظومة، ولتحمل دلالة مهمة اخرى، الا وهي ان اي اداة قمع تحمل في داخلها بذورا ثورية ستدفع بالناس الى التمرد.
لم تكن رصاصات أمجد لتخترق فقط اجساد جنود العدو بل جاءت لتستقر ايضا في رأس عملية التنسيق الامني ومشروع دايتون، لتلحق برصاصات سبقتها الى هناك وبرصاصات ستلحقها ايضا.
اليوم أمجد يخرق قواعد واصول الصراع بين أطراف السلطة الفلسطينية، وسيتم انكاره واتهامه باتهامات ما انزل الله بها من سلطان، لكن كل هذا لقتل النموذج امام عناصر اخرين في الاجهزة، ولمحاولة اثبات قيادة الاجهزة للاحتلال انهم ما زالوا قادرين على القيام بدورهم الوظيفي وان هذا نموذج شاذ يمكن احتواؤه.
المصدر: باسل الأعرج
الكاتب: غرفة التحرير