وُضعت سوريا في الاستراتيجيّة الأميركيّة منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، عندما رأت إدارة جورج دبليو بوش "الابن" أنّ على دمشق أن تختار بين المحورين، محور أميركا أو المحور الآخر، وقد رأوا في الكونغرس والبنتاغون أنّ الرّئيس الأسد جزءٌ من المشكلة، ما أدّى إلى وضعية أكثر عدوانية تجاه سوريا، وهذه العدوانية لا تزال مستمرة بناء على أن السيطرة على سوريا لا تزال جزءاً أساسياً في الاستراتيجية الأميركية.
ولا يخفى أن دعم الرّئيس بشار الأسد لحزب الله في لبنان، وحركات المقاومة الفلسطينيّة وتأكيده الدائم على محورية القضية الفلسطينية والصراع مع "إسرائيل"، فضلاً عن علاقاته الاستراتيجية مع إيران، تسبب بمشكلة كبرى في العلاقة السّورية مع واشنطن، وقد شكّل ظهور المعارضة السوريّة والأحداث التّي حصلت في أعقاب "الثّورات" العربيّة، ومن ثمّ دخول "داعش" الذّي كان شكّل رأس حربة في الحرب التي دعمتها الولايات المتّحدة والناتو في سوريا ضدّ حكومة الرئيس الأسد؛ الذّريعة المناسبة لواشنطن لتغيير النّظام السّوريّ، والدخول عسكرياً إلى الأراضي السورية. وقد سعت واشنطن عبر التحالف الدولي لمواجهة داعش بقوّة لحشد تأييد إقليميّ ودوليّ؛ لتحقيق عدّة أهداف أهمّها عدم خروج المنطقة عن سيطرتها، ومنع صعود النّفوذ الرّوسيّ والإيرانيّ في منطقة الشّرق الأوسط، بفعل مواجهتهما لـ"داعش" والجماعات الإرهابيّة الأخرى في سوريا، فضلاً عن تثبيت القرار الأميركيّ في منطقة الشرق الأوسط مع التّغيرات التّي حصلت بعد ثورات "الربيع العربيّ".
أولاً: الوجود الاستراتيجي في سوريا
استغّلت الولايات المتّحدة الأميركيّة، وجود التّحالف الدّوليّ في سوريا بحجة محاربة تنظيم "داعش"، فقامت باستهداف الدّولة السّوريّة عسّكريّاً، حيث كانت واشنطن تسعى من خلال انتشار قوّاتها في سوريا، للسيّطرة على المنطقة المعروفة بدرع الفرات، الواقعة ما بين نهر الفرات إلى الشّرق وتلك الواقعة إلى الغرب منه، والتّي كانت تسيّطر عليها "داعش"، لما تحتويه من ثرواتٍ نفطيةٍ يمكن لواشنطن الحصول عليها، والاستفادة من موقعها خلال أيّة مفاوضات تحفظ لواشنطن مكاسب اقتصادية في سوريا. كذلك فإنّ هذه المنطقة هي منطقةٌ واصلةٌ بين سوريا والعراق، كانت واشنطن تسعى لمنع التقاء الجيشين السّوريّ والعراقيّ وعدم فتح الحدود السّوريّة العراقيّة من خلال السيّطرة عليها، وبالتّالي منع إقامة طريق يمتّد من إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سوريا.
وهكذا وتحت ذريعة محاربة "داعش"، دخلت القوّات الأميركيّة وقوّاتٌ تابعةٌ للتّحالف الدّوليّ إلى عدّة مناطق، لكي تتمكّن من إقامة عدّة قواعد عسّكريّة، تحافظ من خلالها على تواجدها في سوريا، لقطع الطّريق على التّواجد الرّوسيّ والإيرانيّ في المنطقة، حيث تنتشر في المنطقة الشّرقيّة والشّماليّة الشّرقيّة من سوريا العديد من القواعد العسّكريّة الأميركيّة. وتتوزع القواعد العسّكريّة الأمريكيّة شرق سوريا، في المنطقة الممّتدّة شرق نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التّنف الحدوديّ، إلى الشّمال الشّرقيّ بالقرب من حقول رميلان النّفطيّة، وتتوزّع في الحسكة ودير الزّور والرّقة. كما أنّ توزّع القواعد الأمريكيّة جعلها أشبه بالطّوق الذّي يُحيط بمنابع النّفط والغاز السّوريّ المتواجد شرق نهر الفرات، وهو ما يُمثّل غالبية الثّروة الباطنيّة لسوريا.
وقد أقامت واشنطن قاعدةً استراتيجيّةً لها في منطقة التنف، حيث تأتي أهمية البادية السّوريّة في أجندات واشنطن من خلال السّيطرة على معبر التّنف الحدوديّ، الذّي حوّلته إلى قاعدة عسّكريّة عام 2017، وتقع في منطقة المثلّث السّوريّ العراقيّ الأردنيّ، حيث تتمثّل أهداف هذه القاعدة بشكلٍ أساسيٍّ في تعطيل الممّرات التّي تستخدمها إيران، بهدف مواجهة تمدّدها، والعمل على قطعها لإضعاف موقف إيران العسّكريّ والاقتصاديّ، علاوةً على الأهداف المرتبطة بأمن المنطقة والمصالح الدوليّة.
ثانياً: التهديد الاستراتيجي ومآلات الوجود الأميركي في سوريا
مع وصول جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية، طرحت تساؤلات عدة عن الوجود الأميركي في سوريا، وما هي مآلات هذا الوجود والتموضع في ظل التهديدات الشرق أوسطية؟ وقد أصدر المجتمع الاستخباراتي الأمريكي (IC)في التاسع من نيسان 2021 التقرير السنوي حول التهديدات العالمية للأمن القومي للولايات المتحدة إذ يحدد التقرير مجموعة من التهديدات في سوريا بما للصراع الإقليمي فيها آثار مباشرة على أمن الولايات المتحدة، وللقتال فيها تأثير مباشر على القوات الأمريكية.
ويشير التقرير إلى وجود الوكيل الكردي في الشمال السوري، ويوجه التقرير عدة رسائل، حيث يقول أن هناك عدة خيارات عنوانها العام الشدة والحسم، وقد يكون منها زيادة العديد، أو الانخراط العسكري، أو تغيير الثقل العسكري الأمريكي في المنطقة بذريعة التهديدات وإدخال منظومات دفاعية إليها. هذا، ويتذرع التقرير بمواجهة الأكراد ضغوطًا متزايدة "خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية الكردية " ما سيؤدي إلى ضعف احتمال تخفيض القوات الأمريكية كخيار آخر لتجنب التهديدات.
ويركز التقرير على ضرورة البقاء تحت مسمى محاربة "داعش" حيث يشير إلى أن ترجيح خيار البقاء في سوريا يقوى مع تنبؤ التقرير باستمرار قدرة داعش على "شن تمرد طويل الأمد في العراق وسوريا"، بل و"سيحاول داعش توسيع تمرده في العراق وسوريا" وفق تعبير التقرير.
كذلك يتطرق التقرير إلى الحضور الروسي والإيراني، ويقول أنه وإذ تظهر تهديدات التواجد الإيراني في سوريا في بناء النفوذ الإقليمي ودعم حزب الله وتهديد إسرائيل وهي تهديدات تتمحور حول أمن "إسرائيل" فإن الاستجابة التي يتوقعها التقرير من صناع القرار والعسكريين هي التعامل مع النفوذ الإيراني بما يقوّض التهديد لإسرائيل سواء من جنوب لبنان وسوريا والعراق. وتبرز التهديدات الروسية بالنسبة للأمريكي أكثر اتساعًا على المستوى الجيو استراتيجي، وتحديدًا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث "تستخدم موسكو تدخلها في سوريا وليبيا لزيادة نفوذها، وتقويض القيادة الأمريكية، وتقديم نفسها كوسيط لا غنى عنه". وما يراه التقرير في الحركة الروسية مع الإضاءة على التحديث العسكري الروسي وزيادة الانخراط من "تهديدات متزايدة للولايات المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية"، قد يحمل مؤشرات على ضرورة اتخاذ خطوات سريعة لاحتوائها أو التصادم غير المباشر معها، مع عدم وجود مصلحة أمريكية في النزاع المباشر.
وقد ذكرت الكاتبة KATIE BO WILLIAMS في مقالها المنشور على موقع Defense one أن القوات الأميركية تحافظ على الوضع الراهن في سوريا. وتستشهد الكاتبة بنفي قائد قوات التحالف، الجنرال بول كالفيرت، وجود توجيهات جديدة وتأكيده أن السياسات في سوريا لا تزال كما هي. وفي الإجابة على سؤال ما الذي سيقوم به بايدن، استشهدت الكاتبة بما قاله الجنرال فرانك ماكنزي، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط، أنه يمكن الحفاظ على الوضع الراهن إلى أجل غير مسمىً - "طالما أن القيام بذلك في مصلحة الولايات المتحدة".
ونحن إذا بحثنا موضوع التواجد الأميركي العسكري في سوريا من عدة أبعاد ميدانية - عسكرية وسياسية - جيواسترتيجية، نجد أن الانسحاب الأميركي ليس بالأمر السهل حالياً، وخاصةً نتيجة ارتباط الوجود الأميركي في سوريا بوجوده في العراق، لأن توزع القوات يظهر ارتباطاً ميدانياً جغرافياً بين العديد من المواقع، كالتواجد الأميركي في الأنبار العراقية، والتنف جنوب غرب القائم والبوكمال، وكذلك التواجد في الرميلان شرق الحسكة مع قواعدهم في دهوك كردستان العراق، ومع قاعدة سنجار أيضاً.
أما استراتيجياً، فلن تقبل واشنطن بالسيطرة الروسية - الإيرانية مع ما يعنيه ذلك لوجود محور المقاومة، في سوريا، وكان واضحاً في الحرب على سوريا أنّ واشنطن تريد معاقبة سوريا بسبب وقوفها إلى جانب قوى المقاومة، ودعمها للقضية الفلسطينيّة، وعدم تبعيتها للإدارة الأميركيّة، وعملت على تحويلها إلى دولة فاشلة غير قادرة على تهديد أمن "إسرائيل"، وإبعادها عن المنظومة الممانعة لسياسة واشنطن في الشّرق الأوسط.
انطلاقاً مما تقدم، فإنه من المستبعد أن تنسحب القوات الأميركية كلياً من سوريا، مع وجود احتمالات كبيرة لحصول بعض عمليات إعادة الانتشار أو تبديل القواعد العسكرية، وذلك بناء على أنه من الصعب أن ترفع واشنطن يدها كلياً عن الشرق الأوسط، لكي لا تخلي الساحة كلياً للوجود الروسي فضلاً عن وجود محور المقاومة وتأثيره على مجمل المشهد وتهديده لأمن "إسرائيل" إلا أن ذلك لا يعني عدم حصول تراجع عسكري، يتمثّل بسحب بعض وحداتها من كل من أفغانستان والعراق، وربما من سوريا أيضاً.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع