في الوقت الذي تشهد فيه فلسطين المحتلة تصاعد العمليات الفدائية، يبرز اسم المناضل الثائر المطران هيلاريون كبوجي، أحد مؤسسي الخلايا المقاومة في القدس، والذي شكّل نموذجاً استثنائياً في قضية الدفاع عن فلسطين، والعمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولعله أكثر الشخصيات التي يمكن الحديث عنها في ظل الخطاب المتصاعد لعملاء "إسرائيل" في المنطقة عن ضرورة الحياد، إضافة لاستغلال المقامات الدينية لأجل خدمة "لصوص الهيكل".
يقول المطران هيلاريون كبوجي في مذكراته التي نشرت لاحقاً في كتاب يحمل اسم "المطران إيلاريون كبوجي: ذكرياتي في السجن" والذي نشر عام 2018 أي بعد عام على وفاته: "أسّستُ أولى خلايا الداخل في مدينة القدس، وقررت أن أنقل أسلحة فعّالة من الخارج إلى الداخل لتنشيط العمليات الداخلية، وقد قامت الخلية التي أسّستها بعمليات عدة قبل اعتقالي، وكنت على علم بها". لم يكن هذا الأمر فاتحة النضال في حياة المطران كبوجي، بل كان تعيينه بمنصب مطران الروم الكاثوليك في القدس -بعد تدرجه في السلك الكهنوتي-
عام 1965، ومنذ وصوله إلى القدس، عمد المطران إلى زيارة المقدسيين وتوطيد أصر العلاقة مع مختلف الطوائف، ما جعله شخصية جامعة، جهزت الأرضية لكثير من العمليات في وقت لاحق، خاصة في القدس والداخل.
كانت حرب حزيران عام 1967، نقطة مفصلية في مسيرة نضال المطران كبوجي، حيث ان قيامه بالصلاة على 400 شهيد مقدسي -إلى جانب رجل دين مسلم- قتلوا على يد قوات الاحتلال، ثم دفنهم برفقة عدد من الرهبان، تركت أثراً كبيراً في نفس المطران وجعلت دفاعه عن الحق الفلسطيني أكثر جرأة. وما كان استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، إلا شرارة بدء المطران كبوجي بمقاومته المباشرة، والتي تعددت أشكالها بين سرية عسكرية عبر تأسيس خلايا المقاوِمة والتي نفذت العديد من العمليات تحت إشرافه ومتابعته ومباركته، وعلنية سلمية عبر توحيد الصفوف وقيادة الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة لتحركات الاحتلال التي كانت أكبر من أن تمر دون رد في قاموس المطران الثائر، والذي لم يستطع ان يبقى على حياد.
وبشكل سري، عمل المطران كبوجي على نقل السلاح من لبنان إلى فلسطين، في سيارته التي لم تكن تخضع للتفتيش، مستفيداً من حرية التنقل الممنوحة له كونه رجل دين، ويحمل جواز سفر دبلوماسي كان الفاتيكان قد منحه إياه، حيث كان يعمد إلى اخفائه في المدرسة التابعة للكنيسة اليونانية الكاثوليكية، في قرية بيت حنينا الفلسطينية شمال مدينة القدس، إلى ان تتم عملية التسليم. بقي المطران طيلة تلك الفترة يعمل على نقل الأسلحة حتى 8 آب عام 1974، حيث تم القبض عليه بعد تفتيش سيارته التي كان تستحوذ بداخلها على كمية من الأسلحة. وهي العملية التي أتت بعد جهد استخباراتي وتجسسي من قِبل قوات الاحتلال.
بعد محاكمة استمرت 108 أيام، تم تحويل المطران المناضل إلى القضاء العسكري، الذي حكم عليه بالسجن 12 عاماً، بتهمة "تهريب السلاح والتعاون مع خلايا ارهابية لضرب إسرائيل". تعرض خلالها لمختلف أنواع التعذيب، وجرد من لباسه الكهنوتي، إضافة لمصادرة كتب الصلاة الخاصة به كما حرمانه من إقامة القداديس، وهو الأمر الذي دفعه للإضراب عن الطعام مرات عديدة.
بعدما تصدرت قضيته الرأي العام العالمي، وبعد تدخل الفاتيكان مباشرة للإفراج عنه، حيث أطلق سراحه في تشرين ثاني من عام 1977، بعد مفاوضات شاقة، وضع فيها الاحتلال شروطاً قاسياً كان على رأسها نفي المطران عن فلسطين، ووضعه في الإقامة الجبرية في بلد المنفى، دون ان يسمح له بتاتاً بالعودة مرة أخرى إلى سوريا او لبنان او فلسطين.
وعلى الرغم من التشديد عليه، ومنعه من الظهور الإعلامي في روما حيث استقر، إلا أنه قرر خرق شروط الاحتلال، وزار بيروت ودمشق عدة مرات، ثم شارك في أسطول الحرية الذي توجه إلى غزة عام 2009، حيث تم اعتقاله، ثم تسليمه لقوات الأمم المتحدة على حدود الجولان، ليعتقل مرة أخرى بعد عام ثم تسليمه إلى الأردن.
تابع المطران هيلاريون كبوجي مسيرته النضالية، ملحداً بالحياد، مؤمناً بالدفاع عن الحق الفلسطيني داعياً لنصرة المسيح الذي يصفه بـ "فدائي فلسطين الأول"، وبقي حتى وفاته في الأول من كانون الثاني 2017، يكرر عقيدته الأبدية "يوم سيامتي الأسقفية، وضع ربُّنا في عنقي أمانة هي فلسطين والفلسطينيين. ويوم الحشر سوف يحاسبنا حساباً صارماً على الأمانة. فعلاوة على عروبتي، إن واجبي وضميري يفرضان عليّ خدمة القضية، وألا أكون أخللت بواجبي، والواجب هو الحد الأدنى المطلوب من أي إنسان عنده ذرّة من شرف ودم، ولا فضل للقيام في الواجب، وبالتالي لا فضل لي في خدمة قضيتي الفلسطينية كرجل دين وليس كرجل سياسة".
الكاتب: مريم السبلاني