بعد انتهاء الحرب على لبنان في نوفمبر 2024، ظهر إلى السطح ما بات يُعرف بـ"الاتفاق الجانبي الأمريكي–الإسرائيلي"، وهو تفاهم ثنائي لم يُعلن رسميًا، لكنه سرعان ما تحوّل إلى محور النقاش القانوني والسياسي المتعلّق بمرحلة ما بعد الحرب. فبينما انشغلت الدبلوماسية الدولية بتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته فرنسا والأمم المتحدة، كانت واشنطن وتل أبيب تبنيان، خلف الكواليس، إطاراً موازياً يمنح الكيان المؤقت مساحة أوسع للتحرك العسكري في لبنان وسوريا بذريعة "التهديدات الإيرانية" و"منع زعزعة الاستقرار".
تكشف الوثائق المسربة وتقارير الإعلام الإسرائيلي أن الاتفاق الجانبي وُقِّع بصيغة رسالة من صفحتين ونصف، جرى تبادلها على هامش اتفاق وقف الأعمال القتالية، وتتضمن ما يصفه المسؤولون الإسرائيليون بـ"البند الإيراني". وتتعهد واشنطن بموجب هذا البند بالعمل مع الكيان لمنع أي حضور أو نفوذ إيراني في لبنان، ومواجهة دعم طهران لحركات المقاومة، مقابل إبلاغ تل أبيب لها مسبقًا في حال تنفيذ عمليات عسكرية داخل لبنان كلما كان الأمر ممكنًا. وهو ما يمنح "إسرائيل" هامشاً عملياتياً واسعاً يتجاوز القيود المفروضة في اتفاق وقف إطلاق النار الرسمي.
وتشير الكرونولوجيا السياسية إلى أن وقف الأعمال القتالية دخل حيّز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024 عند الرابعة فجراً، متضمّناً خطوات واضحة: وقف شامل للعمليات العسكرية، انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب خلال نحو 60 يوماً، ونشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني. لكن وعلى الضفة الأخرى، بقي الخطاب الجانبي يوفر للكيان استثناءات فضفاضة تسمح له بتنفيذ "ردود وقائية" أو عمليات "محددة"، مستنداً إلى ضمانة أمريكية تتيح مرونة زمنية وميدانية غير موجودة في الاتفاق الرسمي.
سياسياً، كرّس الاتفاق الجانبي تحالفاً استراتيجياً أعمق بين الولايات المتحدة والكيان، متجاوزاً الدور الأوروبي -خصوصاً الفرنسي- الذي لعب دوراً مركزياً في صياغة اتفاق وقف النار. وبذلك، بدا الاتفاق الجانبي بمثابة محاولة لإعادة توزيع النفوذ في ملف الحدود اللبنانية–الفلسطينية، وإعطاء واشنطن موقع "الضامن الأول" لترتيبات ما بعد الحرب، إلى جانب تعزيز قدرة الكيان على العمل عسكرياً ضد حزب الله بغطاء أمريكي مباشر.
أمّا من جهة لبنان، فتبدو المخاطر واضحة: إذ يتجاوز الاتفاق الجانبي مبدأ السيادة، ويمنح طرفاً غير لبناني صلاحية تقرير ما يُعدّ "تهديداً" على حدوده أو أمنه، ويُبقي احتمالات الخرق العسكري مفتوحة. كما أنه يخلق ازدواجية في المرجعيات القانونية بين اتفاق رسمي أميرته الأمم المتحدة، وآخر سري يعمل خارج الإطار الدولي.
على المستوى القانوني، يفتقر الاتفاق الجانبي إلى مقومات "المعاهدة الدولية"، من حيث الأطراف، والإعلان الرسمي، وغياب توقيع لبنان عليه. وهو أقرب إلى "تفاهم تنفيذي" بين واشنطن وتل أبيب، ما يضعه في خانة الالتزامات السياسية أكثر منه في خانة الاتفاقات الملزمة دولياً. في المقابل، يستند اتفاق وقف إطلاق النار إلى القرار 1701، ويخضع لرقابة دولية تعتمد على لجان مشتركة وآليات تنفيذ منظمة. وتظهر المقارنة بين الاتفاقين أن الاتفاق الجانبي يترك للكيان مساحة عمل أوسع مما يسمح به القانون الدولي، خصوصاً في ما يتعلق باستخدام القوة قبل وقوع "عمل عدائي فعلي".
سياسياً أيضاً، يعكس الاتفاق الجانبي رغبة واشنطن في تثبيت نفوذها في لبنان وسوريا ضمن معادلة ما بعد حرب غزة، وتقليص دور حزب الله، وتهيئة مسار قد يمتد نحو أشكال "تطبيع أمني" أو ترتيبات حدودية جديدة. أما تل أبيب فتسعى من خلاله إلى تثبيت معادلات ردع جديدة تمنحها حرية حركة، وتضمن عدم العودة إلى وضع ما قبل الحرب، وبالحد الأدنى إبطاء أي إعادة تموضع لحزب الله قرب الحدود.
ويتقاطع هذا كلها مع الدور الفرنسي المتنامي في إطار اليونيفيل، حيث أصبحت الكتيبة الفرنسية قوة ذات نفوذ واسع في الجنوب اللبناني، تتمتع بحرية حركة كبيرة وقدرات تقنية، وتؤدي عملياً مهام تتجاوز "مراقبة وقف النار" لتقترب من "عمليات تطهير وكشف" تستهدف البنية العسكرية للمقاومة، بما يضع اليونيفيل أمام سؤال حول طبيعة دورها الحقيقي.
بين الاتفاق الجانبي الأمريكي–الإسرائيلي واتفاق وقف إطلاق النار الرسمي صراع بين منطقين: منطق الشرعية الدولية القائمة على القواعد والقانون والمؤسسات، ومنطق الهيمنة السياسية التي تُعيد إنتاج موازين القوى عبر ترتيبات ثنائية لا تراعي سيادة الدول ولا توازناتها الدقيقة. ومن هنا، فإن مستقبل الاستقرار في لبنان سيبقى رهناً بما إذا كان سينتصر منطق القانون أم منطق القوة.
الكاتب: غرفة التحرير