أعادت اللقاءات الفلسطينية-الفلسطينية في القاهرة، فتح النقاش حول مستقبل السلطة والمقاومة في غزة، في لحظة شديدة الحساسية من مسار الحرب والاتفاقات التي تدور في الكواليس برعاية أميركية ومصرية. فاجتماع وفد حركة حماس برئاسة خليل الحية، ووفد حركة فتح برئاسة حسين الشيخ وماجد فرج، برعاية رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد، شكّل نقطة محورية جديدة في الجهود الرامية إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ضمن ما يُعرف بمرحلة ما بعد الحرب، أو كما يسميها الوسطاء "المرحلة الثانية من خطة ترامب".
هذا اللقاء لم يكن معزولاً عن السياق العام الذي يتداخل فيه المستوى السياسي بالميداني، حيث تسعى القاهرة -بدفع أميركي واضح- إلى بلورة صيغة فلسطينية مشتركة يمكن البناء عليها سياسياً وأمنياً، لتكون أساساً لإدارة قطاع غزة بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي المفترض، ونشر "القوة الدولية" المنصوص عليها في الخطة الأميركية. لكنّ واقع المشهد على الأرض، وخصوصا استمرار الاحتلال في أجزاء من القطاع، وعجز الأطراف عن التوافق على طبيعة هذه القوة الدولية، يجعل من أي حديث عن "إدارة انتقالية" مسألة نظرية حتى اللحظة.
خلفية اللقاء ترتبط مباشرة بالفراغ السياسي المتوقع أن يخلّفه الانسحاب الإسرائيلي، والجدل المتصاعد حول من سيملأ هذا الفراغ. فخطة ترامب، التي جاءت بعد حرب إبادة إسرائيلية استمرت عامين بدعم واشنطن، تقترح تشكيل جهاز إدارة مؤقت يسمى "مجلس السلام" تابعاً لهيئة انتقالية دولية. هذه الفكرة تثير رفضاً واسعاً لدى معظم الفصائل الفلسطينية، التي ترى فيها محاولة لإعادة إنتاج الوصاية الأجنبية على القطاع تحت عنوان الاستقرار. من هنا، جاء التحرك المصري لتقريب المواقف وتفادي الانقسام، عبر الدعوة إلى صيغة شراكة فلسطينية مؤقتة تتيح توافقاً وطنياً يحافظ على وحدة القرار ويمنع تدخلات خارجية مباشرة في الشأن الداخلي.
في المقابل، تخشى فتح ومعها السلطة الفلسطينية من أن يؤدي التفاهم على إدارة مشتركة إلى توسيع حضور حماس في غزة، خاصة إذا تم استبعاد أي دور للسلطة المركزية في رام الله. لذلك، يركّز حسين الشيخ وماجد فرج في لقاءاتهما مع المخابرات المصرية على ضرورة أن تكون أي صيغة انتقالية منبثقة من منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها "المرجعية الشرعية". بينما تصرّ حماس على أن أي ترتيبات مقبلة يجب أن تراعي الواقع الميداني في القطاع ودور المقاومة التي صمدت خلال الحرب، وترفض أي محاولة لنزع سلاحها أو تهميشها سياسياً.
اللقاء، وإن لم يُعلن عن نتائجه، يعكس إدراكاً متبادلاً لدى الحركتين بأن استمرار الانقسام بعد الحرب سيزيد الأمر سوءاً ومن المطلوب معالجته، في ظل الضغوط الإقليمية والدولية الرامية إلى فرض "إدارة جديدة" للقطاع بمعزل عن الإرادة الفلسطينية. فالفصائل التي ستجتمع تباعاً في القاهرة -من الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية وتيار دحلان -تسعى إلى بلورة موقف موحّد يرفض الوصاية الدولية، ويطالب بأن تكون أي قوة أمنية قادمة إلى غزة عربية حصراً وتعمل في المناطق الحدودية فقط.
الجدل الأبرز يدور حول مصير سلاح المقاومة. فبينما تصرّ واشنطن وتل أبيب على أن نزع السلاح شرط أساسي للمرحلة الثانية من الاتفاق، تؤكد الفصائل الفلسطينية أن هذا الملف "غير مطروح للنقاش" الآن، لأنه مرتبط بمصير الشعب الفلسطيني ككل، ولا يمكن أن يُبحث بمعزل عن مشروع التحرير الوطني. هذا الموقف يشكّل أحد أبرز نقاط التوتر مع الوسطاء الغربيين الذين يرون في السلاح العقبة الكبرى أمام "استقرار غزة".
في حين يمكن القول أن ما يجري في القاهرة ليس مجرد وساطة مصالحة، بل اختبار حقيقي لقدرة الفلسطينيين على إنتاج معادلة داخلية مستقلة قبل أن تُفرض عليهم معادلة دولية جاهزة. فالقاهرة تتحرك في مساحة ضيقة بين متطلبات واشنطن ورغبة رام الله وشروط وواقع المقاومة في غزة، محاوِلة صياغة تفاهمات واقعية لا تسقط حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، لكنها تراعي أيضاً ميزان القوى القائم وضغوط المانحين.
من ناحية أخرى، فإن مهما كانت نتائج لقاءات القاهرة، فإنها ستكشف حدود التفاهم الفلسطيني الداخلي وقدرته على مقاومة الضغوط الخارجية. فإما أن ينجح الفلسطينيون في صياغة رؤية وطنية مشتركة تُفشل مسار الوصاية الدولية وتُعيد توحيد النظام السياسي، أو يجدوا أنفسهم أمام مرحلة جديدة من التفكك تُدار فيها غزة من الخارج تحت عناوين السلام والاستقرار.
الكاتب: غرفة التحرير