الإثنين 08 أيلول , 2025 10:12

هدم أبراج غزة: ممارسة استعمارية للسيطرة عبر الخوف والجوع

الاحتلال يدمر أبراج قطاع غزة

حين يعلن "وزير الحرب الإسرائيلي" يسرائيل كاتس أنه "بدأ بإزالة القفل عن بوابات جهنم في غزة"، ثم تتبعه طائرات الاحتلال لتنسف برج مشتهى وبرج السوسي في غضون دقائق، لا يمكن اعتبار ذلك فقط إجراء عسكري في سياق مواجهة مسلحة. إننا أمام ممارسة استعمارية قديمة متجددة، جوهرها إدارة السكان الفلسطينيين عبر الخوف والتجويع والاقتلاع، أكثر مما هي معركة تقليدية تستهدف أهدافاً عسكرية مباشرة.

الاستعمار وإدارة الحياة والموت

السياسة "الإسرائيلية" في غزة تكشف مرة أخرى أن جوهر الاستعمار ليس فقط السيطرة على الأرض، بل التحكم في حياة الناس اليومية حتى حدود التنفس والمأوى. فحين يُترك آلاف النازحين بلا خيام، وحين تُهدم عمارات تضم مئات الأسر خلال دقائق معدودة، فإن الهدف ليس القضاء على "بنية تحتية عسكرية"، كما يزعم الخطاب الرسمي "الإسرائيلي"، بل خلق صدمة جماعية تضع الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما: النزوح جنوباً أو الموت تحت الركام.

هذا النمط يندرج فيما يسميه علماء الاجتماع "النيكروبوليتكس"(سياسة الموت)، حيث تحدد القوة الاستعمارية من يحق له أن يعيش، ومن يُترك للموت جوعاً أو برداً أو تحت القصف. في غزة، لم يعد الأمر متعلقاً بمجرد قتال بين جيشين، بل بتجربة استعمارية كاملة توظّف أدوات الحرب لفرض هندسة ديمغرافية جديدة.

الأكذوبة العسكرية

يزعم جيش الاحتلال أن الأبراج السكنية في غزة تُستخدم "كمواقع سيطرة أو منصات قنص أو مخازن أسلحة". لكن المفارقة أن هذه الأبراج لم تُستهدف في المراحل الأولى للحرب حين اجتاحت القوات البرية أطراف المدينة. لماذا إذن تُدمَّر اليوم بعد مرور نحو عامين من القتال؟

الجواب بسيط: التدمير هنا ليس ضرورة عسكرية، بل ورقة ضغط سياسية ونفسية. لو كانت الأبراج أهدافاً عسكرية بحتة لتم استهدافها فوراً ودون سابق إنذار، لا عبر مكالمات هاتفية تمنح السكان دقائق معدودة للإخلاء. هذا "الكرم الاستعماري" ليس إنسانية بل جزء من لعبة دعائية؛ إذ يُراد القول للعالم إن "إسرائيل" تحذر المدنيين، بينما الغاية الفعلية هي تدمير البيئة الحضرية بكاملها وتحويل غزة إلى "صحراء إسمنتية".

سياسة التهجير المستمر

منذ 1948، لم تتوقف "إسرائيل" عن ممارسة التهجير كوسيلة لإعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا. اليوم، يُعاد إنتاج النكبة بأدوات جديدة: ليس عبر مذابح جماعية فقط، بل من خلال تحويل الحياة إلى سلسلة نزوح لا تنتهي.

إن تدمير الأبراج السكنية يحقق غايتين متكاملتين: أولاً، إضعاف الروابط الاجتماعية عبر تفكيك الأحياء السكنية وإجبار العائلات على التشتت. وثانياً، دفع الناس إلى الهجرة الداخلية المتكررة، بما يجعل البقاء في المدينة مستحيلاً. إنها عملية "إدارة السكان عبر النزوح"، بحيث يتحول كل فلسطيني إلى لاجئ دائم حتى داخل غزة نفسها.

المقاومة والصدمة النفسية

يظن المخطط "الإسرائيلي" أن تدمير الأبراج سيكسر إرادة الفلسطينيين ويزرع الهلع في نفوسهم. لكن التجربة الطويلة تؤكد عكس ذلك. منذ قصف برج الظافر عام 2014، مروراً بهدم برج فلسطين 120، وصولاً إلى مشتهى والسوسي اليوم، لم تنكسر روح الغزيين. بل على العكس، كل تدمير جديد يعزز شعوراً جماعياً بأن لا مفر من الصمود، وأن التراجع أمام آلة الحرب لن يؤدي إلا إلى تهجير أكبر.

إن ما تسميه "إسرائيل" الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة يكشف عن سوء تقدير جوهري: فهذه الحاضنة ليست فقط جمهور يمكن إخضاعه، بل هي الجهة المنتجة للمقاومة ذاتها. حين تُهدم الأبراج ويُترك الناس في العراء، فإنهم لا يرفعون الراية البيضاء، بل يتشبثون أكثر بوجودهم، مدركين أن كل شبر من الأرض وكل جدار متبقّ هو خط دفاع عن هويتهم.

الأبعاد الإقليمية والدولية

هدم الأبراج ليس رسالة موجهة إلى الفلسطينيين وحدهم. إنها أيضاً رسالة ردع إقليمي: ما يحدث في غزة يمكن أن يتكرر في صنعاء أو بيروت أو دمشق. تريد "إسرائيل" أن تعرض "نموذج غزة" كوسيلة لإرهاب خصومها الإقليميين. لكن هذا النموذج يحمل خطراً عكسياً: إذ يكشف هشاشة "إسرائيل" الأخلاقية والسياسية، ويزيد من عزلتها الدولية.

فقد بدأت أصوات غربية، حتى داخل مؤسسات حليفة "لإسرائيل"، بالتساؤل: أي جدوى عسكرية في تحويل مدينة كاملة إلى ركام؟ ولماذا تبدو "إسرائيل" كمن يقاتل المدنيين أكثر مما يقاتل حركة مسلحة؟ هنا يتجلى البعد الاستعماري العميق: فالغرب الذي يزود "إسرائيل" بالسلاح والدعم السياسي يجد نفسه متورطاً في مشروع إبادة سكاني يصعب الدفاع عنه أخلاقياً.

فشل الاستراتيجية الاستعمارية

رغم فداحة التدمير، تكشف التجربة أن سياسة هدم الأبراج فاشلة على المدى البعيد. فالتقديرات "الإسرائيلية" نفسها تعترف باستحالة تهجير كامل سكان غزة، بل حتى دفعهم جميعاً جنوباً يبدو صعباً. إن فائض القوة العسكرية لا يترجم بالضرورة إلى قدرة سياسية على فرض الاستسلام. بل إن تدمير العمران يفتح الباب أمام دورة جديدة من المقاومة، لأن الفلسطينيين الذين خسروا كل شيء لم يعودوا يخشون شيئاً.

 منطق الإبادة بدل منطق السياسة

إن اختزال الأبراج في مجرد "أهداف عسكرية" يخفي الحقيقة الأعمق: "إسرائيل" لا تواجه حركة مقاومة فقط، بل تواجه مجتمعاً بأكمله، وتسعى إلى تدميره كي تدير بقاياه عبر الخوف والجوع. هذا ليس تكتيكاً عسكرياً بل جوهر المشروع الاستعماري نفسه: تحويل السكان الأصليين إلى أجساد بلا مأوى، قابلة للإدارة، منزوعة القدرة على تقرير المصير.

لكن ما تغفله "إسرائيل" وحلفاؤها هو أن هذا النموذج يولّد نقيضه بالضرورة. كل ركام جديد هو شهادة على الفشل الاستعماري في محو شعب، وكل برج مهدم يتحول إلى ذاكرة مقاومة لا يمكن اقتلاعها. إن إدارة السكان عبر الخوف قد تفرض النزوح المؤقت، لكنها لا تنتج خضوعاً دائماً، بل صموداً أكثر تجذراً. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: سياسة الهدم التي أرادت "إسرائيل" منها أن تُخضع غزة، قد تصبح أحد أبرز أسباب استمرار مقاومتها.


الكاتب: د. محمد الأيوبي




روزنامة المحور