الأربعاء 03 أيلول , 2025 04:10

بين استدعاء الاحتياط واحتلال غزة: "إسرائيل" تصنع مأزقها بيدها

دبابة إسرائيلية وخريطة قطاع غزة

منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي عن استدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط في إطار عملية "عربات جدعون 2"، بدا أن المؤسسة العسكرية لم تعد قادرة على إخفاء أزمتها البنيوية. فالتبرير الرسمي كان واضحًا: تعويض الإنهاك الذي أصاب القوات النظامية في غزة، وإعادة توزيع الألوية بين جبهات متعددة، من سوريا ولبنان إلى القطاع الذي يُعَدّ الجبهة المركزية. لكن خلف هذا الخطاب تكمن حقائق أكثر خطورة، تكشف أن "إسرائيل" تصنع مأزقها بيدها، تمامًا كما صنعت أساطير قوتها من قبل عبر الدعاية لا عبر الحقائق العسكرية.

أزمة الاحتياط: انعكاس لضعف داخلي

الاحتياط، تاريخيًا، كان "الدرع السري" للمجتمع "الإسرائيلي"، أداة لتغطية عجز الدولة الصغيرة ديموغرافيًا أمام محيطها. لكنه اليوم يتحول إلى عبء. ليس فقط لأن 40% من المستدعين يرفضون الالتحاق بالخدمة، بل لأن من يلتحق يفتقر إلى الخبرة القتالية الضرورية. في الحرب الحديثة، حيث المعارك تجري في بيئات حضرية كثيفة، ووسط أنفاق وعبوات وكمائن، لا تكفي مجرد الأعداد. ما تحتاجه "إسرائيل" هو مقاتلون مدربون على مواجهة "حرب العصابات"، لكن ما لديها هو موظفون مؤقتون بزي عسكري، يفتقرون إلى الدافعية والمعنويات.

هذا ليس فقط تفصيل عسكري، بل انعكاس لأزمة "المجتمع الإسرائيلي" نفسه: مجتمع يقوم على معادلة تفوق عسكري مطلق مقابل هشاشة سياسية واجتماعية. حين يتآكل التفوق، ينكشف الفراغ. رئيس الأركان إيال زامير حين يقول إن "الجيش يخوض حربًا لا يريدها"، فهو لا يصف فقط واقع المؤسسة العسكرية، بل يعترف ضمنيًا بانفصالها عن مشروع سياسي واضح، وانزلاقها إلى حرب استنزاف بلا أفق.

غزة كمستنقع تاريخي

الاستعدادات المعلنة لاحتلال مدينة غزة ليست جديدة. لقد جُرّبت عام 2008، ثم 2014، ثم في كل جولة لاحقة بطرق مختلفة. النتيجة كانت واحدة: فشل في كسر المقاومة، وارتفاع في الخسائر البشرية، وإحراج سياسي للحكومة أمام الداخل والخارج. الجديد اليوم هو أن حماس لم تعد فقط تدافع، بل أعدّت بيئة حضرية كاملة للاستنزاف: أنفاق، عبوات، قناصة، وكمائن على مستوى استراتيجي. أي دخول بري سيكون أقرب إلى السير الطوعي داخل فخ جماعي.

الإعلام "الإسرائيلي" نفسه يعترف بذلك. صحيفة معاريف حذرت من أن صورة النصر لم تعد ممكنة، فيما تشير وثيقة عسكرية داخلية إلى فشل "عربات جدعون" الأولى في تحقيق أهدافها. هذه ليست مجرد تقديرات متشائمة بالنسبة لهم، بل إقرار بأن المشروع "العسكري الإسرائيلي" في غزة فقد وظيفته السياسية: لم يعد قادرًا على إنتاج رمزية القوة، لا أمام "الإسرائيليين" ولا أمام الخارج.

الأكلاف الاقتصادية والسياسية

حين تناقش "هيئة البث الإسرائيلية" أن العملية قد تكلف أكثر من 7 مليارات دولار، فهذا ليس رقمًا ماليًا وحسب. إنه إشارة إلى أن الاقتصاد "الإسرائيلي" سيُرهَق كما تُرهق قواته. تخفيض ميزانيات الوزارات لصالح الدفاع يعني مزيدًا من التوتر الاجتماعي، في وقت يزداد فيه الاحتقان بين الفئات "الإسرائيلية" المختلفة: المتدينون والعلمانيون، اليهود الشرقيون والغربيون، المهاجرون الجدد والقدامى. الحرب هنا تكشف حدود "المجتمع الموحد" الذي طالما بشرت به الدعاية الصهيونية.

الأهم من المال هو الزمن. القيادة العسكرية تقول إن العملية قد تستمر عامًا كاملًا، فيما يقدّر المستوى السياسي أنها لن تتجاوز ثلاثة أشهر. هذا التضارب ليس مجرد سوء تنسيق، بل تعبير عن انقسام استراتيجي بين من يفكر بمنطق الميدان، ومن يراهن على الانتخابات والدعاية.

معضلة الأسرى: كابوس مضاعف

لا يمكن فصل أي عملية برية عن معضلة الأسرى. "إسرائيل" تعلم أن لدى حماس عشرات الأسرى، بعضهم أحياء. هذا يعني أن الجيش مقيد في استخدام قوته النارية، ومجبر على تقليص القصف والمدفعية والاعتماد على الذخائر الدقيقة. والنتيجة: مخاطرة أكبر في المواجهات المباشرة. أي فشل في هذا الملف سيحوّل العملية برمتها إلى فضيحة أخلاقية وسياسية، خاصة أن "المجتمع الإسرائيلي" بات يرى في قضية الأسرى مسألة وجودية تمس "هيبة الدولة".

مأزق بلا مخرج

ما الذي يعنيه كل ذلك؟ يعني أن "إسرائيل" تخوض حربًا لا تعرف كيف تنهيها. تريد احتلال غزة لكنها تعلم أن الكلفة البشرية والسياسية باهظة. تريد استدعاء الاحتياط لكنها لا تملك الوسائل لاستيعابهم أو تحفيزهم. تريد صورة نصر لكنها فقدت قدرتها على صناعة الرموز. إنها باختصار تصنع مأزقها بيدها.

من هنا، فإن توصية بعض الدوائر الأمنية باللجوء إلى صفقة تبادل أسرى ليست خيارًا إنسانيًا بقدر ما هي إدراك متأخر لحقيقة الميدان: أن الحلول العسكرية لم تعد ممكنة. وإذا كان زامير أمام ثلاثية "المطلوب" و"المفروض" و"المفروض عليه"، فإن الخلاصة أن الجيش لم يعد سيد قراره، بل أسير حسابات سياسية داخلية وخارجية.

غزة كحقيقة كاشفة

إن ما يجري اليوم يفضح بنية المشروع الصهيوني برمتها: كيان يقوم على القوة لكنه ينهار حين تواجه قوته بيئة معدّة للاستنزاف. تمامًا كما فشل الاحتلال الأميركي في فيتنام، وكما غرقت واشنطن في العراق وأفغانستان، فإن "إسرائيل" تسير على الطريق ذاته. الفرق أن غزة ليست بعيدة آلاف الكيلومترات، بل على حدودها المباشرة. إنها ليست حربًا يمكن التنصل منها، بل جرح مفتوح داخل الجسد "الإسرائيلي" نفسه.

ولهذا فإن المأزق أكبر من عملية عسكرية. إنه أزمة وجودية لمشروع كامل، تكشفها غزة اليوم بوضوح: أن التفوق العسكري ليس ضمانة، وأن الاستعمار الاستيطاني لا يمكنه أن يحيا إلى الأبد بالقوة وحدها.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور