الخميس 04 أيلول , 2025 04:09

قاموس جديد للإبادة: كيف غيّرت حرب غزة لغة القانون والسياسة؟

طائرات إسرائيلية وكتاب القانون الدولي

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة وما رافقها من دمار واسع ونزوح جماعي وحرمان من أبسط مقومات الحياة، ظهرت مصطلحات قانونية وسياسية جديدة تحاول توصيف حجم الجرائم والانتهاكات التي يعيشها الفلسطينيون. ورغم أن القانون الدولي، عبر اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وضع تعريفات واضحة لجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، إلا أن الواقع في غزة كشف عن أن هذه التعريفات وحدها لم تعد كافية. فقد فرضت الوقائع الميدانية المتسارعة لغة جديدة توسّع القاموس المفاهيمي، وتقدّم مصطلحات أكثر قدرة على تفسير ما يحدث.

تنقسم هذه المصطلحات إلى فئتين أساسيتين: الأولى قانونية مباشرة تهدف إلى توصيف أفعال محددة كالـ"إبادة عبر الحصار"، و"الإبادة بالتجويع"، و"الإبادة بالحرمان الطبي"، وكلها ترتبط بنصوص القانون الدولي الإنساني. أما الثانية فهي أقرب إلى لغة الإعلام والسياسة، مثل "إبادة المنازل"  (Domicide)  و"الحرب القانونية"  (Lawfare)، وهي مفاهيم تحاول رصد أشكال المعاناة اليومية للفلسطينيين وكشف ثغرات النظام الدولي في المساءلة.

الأهمية هنا أن هذه المصطلحات ليست مجرد كلمات توصيفية، بل أدوات تحليلية تكشف آليات العنف المركّب، وتفضح ما يمكن وصفه بـ"الهندسة القانونية والسياسية للإبادة". فالمفاهيم المستجدة مثل "الإبادة البطيئة" أو "العنف البنيوي" تعكس تحول النقاش العالمي من التركيز على القصف العسكري المباشر إلى دراسة السياسات الاقتصادية والإدارية والإعلامية التي تسهم في إضعاف مجتمع كامل حتى تفكيكه.

مصطلحات جديدة من قلب المأساة

من أبرز ما تداوله الباحثون والناشطون في السنوات الأخيرة مصطلحات مثل:

- الإبادة عبر الحصار: وتشير إلى منع الغذاء والدواء والوقود عن السكان بهدف دفعهم إلى الموت الجماعي، وهو فعل يجرّمه القانون الدولي باعتباره شكلاً من أشكال الإبادة أو جريمة حرب.

- الإبادة عبر التجويع: استخدام نقص الطعام كسلاح متعمّد لإضعاف المدنيين حتى الموت.

- الإبادة بالحرمان الطبي: تدمير المستشفيات أو منع الأدوية والوقود عنها، ما يؤدي إلى موت جماعي يمكن اعتباره جزءًا من سياسة إبادة.

- الإبادة بالقصف العشوائي: استهداف المدنيين بشكل غير مميز عبر ضربات واسعة النطاق، وهو فعل محظور في القانون الدولي ويصنّف كجريمة حرب قد ترقى إلى الإبادة إذا ارتبط بنية تدمير جماعة معينة.

- الإبادة البطيئة: وهي عملية تراكمية تهدف إلى تفكيك المجتمع ببطء عبر حرمانه من الموارد، من التعليم، ومن الرعاية الصحية، على مدى سنوات طويلة.

- الإبادة الرقمية أو المعلوماتية: محاولات محو الرواية الفلسطينية عبر حجب الإنترنت أو حذف الشهادات على المنصات الرقمية، وهو شكل حديث من أشكال الإبادة المرتبطة بالسيطرة على المعلومات.

- الإبادة عبر التهجير: أي الطرد الجماعي المتعمّد للفلسطينيين من أرضهم بهدف منع استمرار وجودهم كجماعة.

- القتل الممنهج: وهو عمليات قتل واسعة ومنظّمة ضد المدنيين، تُصنّف عادة كجرائم ضد الإنسانية.

- الإبادة الديموغرافية: سياسات تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية لمكان ما عبر الطرد أو خفض معدلات الولادة أو استقدام مستوطنين جدد.

مصطلحات سياسية–إعلامية موازية

إلى جانب اللغة القانونية، ظهرت تعابير أخرى أكثر ارتباطًا بالخطاب السياسي والإعلامي، منها:

- فجوة المساءلة: وتعني غياب قدرة النظام الدولي على محاسبة إسرائيل بسبب الدعم السياسي لها.

- الإفلات من العقاب: وهو عدم تحمّل مرتكبي الجرائم للمساءلة، ما يفاقم من حجم الانتهاكات.

- الإبادة بالوكالة: اتهام الغرب بأنه يوفّر الغطاء والدعم لإسرائيل بما يجعلها تنفّذ جرائم إبادة نيابة عنه.

- تسييس المساعدات: استخدام الغذاء والدواء كأداة ضغط سياسي أو عسكري.

- إنكار الإبادة: وهو خطاب متكرر في الإعلام والسياسة الغربية يحاول نفي الجرائم أو التقليل منها.

- الكارثة الإنسانية: توصيف للانهيار الكامل في البنية الأساسية للحياة اليومية.

- التهديد الوجودي: مصطلح سياسي يوظفه الإعلام الغربي لتبرير الرواية الإسرائيلية.

- العنف البنيوي: ضرر طويل الأمد ناتج عن سياسات اقتصادية واجتماعية تمييزية تؤدي إلى موت ومعاناة بطيئة.

بين القانون والسياسة

إعادة إنتاج هذه المصطلحات وتحليلها تفتح الباب أمام قراءتين متوازيتين: الأولى قانونية تدرس مدى انطباقها على الوضع في غزة، والثانية سياسية–إعلامية تتابع كيفية توظيفها في الخطاب العام لتبرير الأفعال أو فضحها. وفي الحالتين، يصبح هذا القاموس أداة لفهم مشهد أعقد من مجرد حرب عسكرية، إذ يكشف عن "فجوة المساءلة" و"الإفلات من العقاب"، وعن هشاشة النظام الدولي في مواجهة الضغوط الجيوسياسية.

ويشير خبراء القانون إلى أن المعيار الأهم لتوصيف جريمة الإبادة هو "النية الخاصة" (dolus specialis)، أي قصد القضاء على جماعة بعينها. وهنا تظهر أهمية الأدلة التي تشمل تصريحات رسمية، وثائق سياسات، تقارير حقوقية، وصور أقمار صناعية. أما من حيث المحاسبة، فالمسارات القانونية الممكنة تتراوح بين المحكمة الجنائية الدولية، محكمة العدل الدولية، الدعاوى أمام المحاكم الوطنية وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية، وصولًا إلى لجان التحقيق الخاصة وفرض العقوبات الدولية.

إن استخدام هذه المصطلحات لا يقتصر على التوصيف، بل يوفّر وسيلة للمواجهة والتوثيق. فهي تساعد على بناء خطاب حقوقي عربي وغربي أكثر دقة ووعيًا، وتمنح الباحثين والناشطين إطارًا لتحليل الظاهرة بعيدًا عن التبسيط أو التعمية. والأهم أنها تضع العالم أمام حقيقة أن ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل جريمة مركّبة تستدعي تسمية جديدة، ووعيًا جديدًا، ومحاسبة لم تأت بعد.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور