يشكّل النزوح القسري أحد أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات في أوقات الحروب والصراعات الممتدة. فهو لا يعني مجرد انتقال الأفراد من أماكن إقامتهم إلى مواقع أخرى أكثر أمانًا، بل يمثل عملية معقدة تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هذه الظاهرة تؤدي إلى تعطيل أنماط الحياة المستقرة، وتغيير بنية الأسواق المحلية، وخلق اعتماد متزايد على المساعدات الخارجية بدلًا من الاعتماد على مصادر الدخل المستقلة. كما يكشف النزوح القسري عن هشاشة البنية الاقتصادية في البيئات المتأثرة بالصراع، ويجعل مسألة التعافي وإعادة الإعمار أكثر صعوبة، بما يفرض الحاجة إلى مقاربات شاملة تجمع بين الاستجابة الإنسانية العاجلة والرؤية التنموية بعيدة المدى.
تعرض هذه الورقة المرفقة أدناه، التداعيات الاقتصادية الكارثية للنزوح القسري في قطاع غزة، في ظلّ حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة منذ 2023/10/7، مشيرةً إلى أن القطاع يشهد انهياراً شبه كامل في منظومته الاقتصادية، مع تفكّك البنية الإنتاجية والاعتماد شبه المطلق على المساعدات الإنسانية.
وتكمن أهمية هذه الورقة، التي يصدرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، في أنها تقدّم قراءة حديثة وموثّقة لواقع الاقتصاد في قطاع غزة، والتي تُشير نتائجها إلى أن قطاع غزة فَقَدَ نحو 200 ألف وظيفة، فيما ارتفع معدل البطالة من نحو 45% في الربع الثالث من سنة 2023 إلى نحو 68% في الربع الرابع من سنة 2024، كما توقفت عن العمل أكثر من82 % من المؤسسات الإنتاجية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 81% في الربع الأخير من سنة 2023، وسجّل انكماشاً سنوياً يقارب 22% مقارنة بمستواه في سنة 2022.
أما القطاع الزراعي، فقد شهد تدميراً واسعاً أصاب ما بين 80% و96% من الأصول الزراعية، مما أدى إلى انهيار الإنتاج الغذائي المحلي بأكثر من 90%، ووصول كامل سكان قطاع غزة تحت خط الفقر، مع اقتراب نصف مليون شخص من حافة المجاعة.
وأشار الدكتور رائد حلس في هذه الورقة إلى أنّ المساعدات الإنسانية باتت المصدر شبه الوحيد لتلبية احتياجات السكان، لكنها لا تغطي سوى 10% من الاحتياجات الفعلية، الأمر الذي يهدِّد بتحويل الاقتصاد المحلي إلى "اقتصاد إغاثي" صرف، ويكرّس حالة الاعتمادية الاقتصادية لعقود قادمة.
وأكّد الباحث أن تجاوز هذه الأزمة يتطلب الانتقال من الاستجابة الإغاثية الطارئة إلى مقاربة تنموية شاملة، تشمل إعادة إعمار البنية التحتية، ودعم القطاعات الإنتاجية، وتعزيز النظم الغذائية المحلية، وتمكين الفئات الهشّة، بما يضع أُسس التعافي الاقتصادي والاجتماعي المستدام، وأضاف أن استمرار الحرب وتوسع النزوح سيجعلان من عملية التعافي أكثر صعوبة وتعقيداً، ما لم تُعتمد رؤية استراتيجية متكاملة تجمع بين البُعد الإنساني والبُعد التنموي.
وخلُصت الورقة إلى مجموعة من التوصيات الرئيسية التي شدَّدت على ضرورة إعادة إعمار البنية التحتية الحيوية وشبكات الخدمات الأساسية، وإطلاق برامج اقتصادية إنتاجية مثل "النقد مقابل العمل" والمشاريع الصغيرة، إلى جانب دعم الزراعة المجتمعية والحضرية وإنشاء أسواق محلية، وتمكين النساء والشباب عبر برامج التمويل والتدريب المهني، وتطوير آليات الحوكمة والشراكات بما يُعزز الشفافية في إدارة الموارد، بالإضافة إلى دمج إدارة المخاطر في خطط التعافي من خلال أنظمة إنذار مبكر واحتياطات استراتيجية.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: د. رائد حلس