السبت 20 أيلول , 2025 12:44

رسالة رفح: العملية النوعية تُذكّر بأن المقاومة تحطم أسطورة "المناطق الآمنة"

نتنياهو والضباط المقتولين في غزة

لم تكن عملية رفح الأخيرة حدثًا هامشيًا في سياق حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، بل شكّلت رسالة مركّبة، عسكرية وسياسية في آن واحد. فمنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها جيش الاحتلال أن أربعة من ضباطه قُتلوا بانفجار عبوة ناسفة في منطقة اعتبرها "مؤمَّنة"، كان واضحًا أن المقاومة أرادت أن تقول شيئًا أبعد من مجرد تسجيل إصابة في صفوف "القوات الإسرائيلية". لقد كانت العملية بمثابة إعلان صريح أن ما يصفه الاحتلال بـ"المناطق الآمنة" ليس سوى وهمٍ يتهاوى كلما اصطدم بحقيقة الأرض وسكانها، وأن مشروع الاحتلال القائم على التهجير والسيطرة الشاملة يتعرض لارتجاجات لا تنتهي.

حيث شهدت مدينة رفح جنوب قطاع غزة عملية نوعية للمقاومة أدت إلى مقتل 4 ضباط من "جيش الاحتلال"، في حادثة تكشف عن استمرار التهديدات الأمنية في المناطق التي يدعي الاحتلال السيطرة عليها. وأعلن "الجيش الإسرائيلي" -أمس الخميس- مقتل 4 ضباط أحدهم برتبة رائد و3 برتبة ملازم وإصابة 3 جنود بانفجار عبوة ناسفة في رفح جنوبي قطاع غزة.

الوهم الإسرائيلي: صناعة "المناطق الآمنة"

منذ بداية عملية "عربات جدعون 2"، حاول الاحتلال أن يقدم رواية مفادها أنه قادر على فرض طوق ناري، تقسيم القطاع إلى مربعات فارغة، وإعادة هندسة المشهد السكاني بما يتوافق مع خططه الاستيطانية. كان القصف الجوي والمدفعي على أحياء الزيتون والشجاعية وتل الهوى جزءًا من خطة أشمل لتهيئة الأرض أمام القوات البرية. الفكرة بسيطة في ظاهرها: خلق فراغ بشري يتيح التقدم بلا اشتباك، وتحويل غزة إلى مسرح عمليات بلا مقاومة. لكن هذه الفكرة تخفي جوهر المشروع، وهو تحويل مناطق بأكملها إلى مساحات غير صالحة للعيش، كي يُفرَغ المكان من أهله وتُعاد صياغته ديموغرافيًا لصالح المستوطنات القادمة.

غير أن المقاومة، بعملية رفح، أظهرت أن هذا "الفراغ" ليس فراغًا على الإطلاق. العبوة التي انفجرت في قلب منطقة يزعم الاحتلال أنه "طهّرها"، هي بمثابة إعلان أن الأرض ليست صامتة، وأن ما يُدفن تحت ركام المنازل قد يتحول في أي لحظة إلى أداة مقاومة تفكك أوهام السيطرة.

رفح: تقويض استراتيجية "الهروب إلى الأمام"

رسالة رفح لا تنفصل عن مأزق أوسع تعيشه "إسرائيل". نتنياهو، الذي يواجه المحكمة الجنائية الدولية، لا يبحث عن "النصر" بقدر ما يبحث عن صورة نصر، عن لقطة تُنقذ توازنه السياسي وتمنحه بعض الأوكسيجين أمام الداخل والخارج. لكن المشكلة أن كل خطوة عسكرية لا تُنتج سوى المزيد من التعقيد. فبدلًا من التقدم في مدينة غزة، يقف "الجيش الإسرائيلي" بعد 48 ساعة على أبوابها، محاصرًا بمقاومة لا تظهر إلا لتضرب ثم تختفي، وبواقع بشري يرفض الانصياع الكامل لأوامر النزوح.

عملية رفح تكشف أن استراتيجية "الهروب إلى الأمام" – أي محاولة تعويض الإخفاقات بجرعة جديدة من العنف – باتت عالقة في حلقة مفرغة. فحتى في المناطق التي يزعم الاحتلال أنه سيطر عليها منذ عامين، ما زالت المقاومة قادرة على استعادة المبادرة. هذه القدرة، في جوهرها، ليست مجرد إنجاز عسكري بل دليل على فشل البنية الأمنية والاستخبارية "الإسرائيلية"، والتي استُنزفت إلى حد لم تعد معه قادرة على التنبؤ أو الحسم.

المقاومة وحرب الاستنزاف التراكمية

في خطابها الأخير، أعلنت كتائب القسام أنها أعدت "جيشًا من الاستشهاديين وآلاف الكمائن والعبوات"، مؤكدة أن غزة لن تكون لقمة سائغة. هذا الإعلان ليس مجرد تهديد بل انعكاس لعقيدة قتال تقوم على الاستنزاف التراكمي: عمليات صغيرة متفرقة، لكنها متواصلة بما يكفي لرفع الكلفة البشرية والسياسية على الاحتلال. رفح، إذن، هي مثال على كيفية بناء الردع عبر تراكم الضربات، لا عبر معركة فاصلة تقليدية.

هذا النموذج يربك "الجيش الإسرائيلي"، الذي اعتاد على حروب قصيرة تُحسم بالتفوق الجوي والتكنولوجي. اليوم يجد نفسه في بيئة حضرية، مليئة بالأنفاق والكمائن والعبوات المزروعة مسبقًا أو حديثًا، ما يجعل كل شارع وكل بناية مصدر تهديد محتمل. والنتيجة: جيش الاحتلال يقاتل في ظل "عمى تكتيكي"، يتحرك في مناطق يعتبرها مؤمنة ثم يُفاجأ بانفجار يوقع قتلى وضباطًا.

"المناطق الآمنة" كخرافة سياسية

ما يجعل عملية رفح أكثر خطورة على الرواية "الإسرائيلية" هو بعدها السياسي. إذ لطالما حاول الاحتلال إقناع المجتمع الدولي بأن هناك "ممرات إنسانية" و"مناطق آمنة" تُنقل إليها الحشود الفلسطينية. لكن حين تُستهدف آلية عسكرية في رفح – التي يُفترض أنها "آمنة" – تتعرى الرواية أمام حقيقتها: لا مكان آمن في غزة، لا للمدنيين ولا حتى للجيش. هذا يعيد تذكير العالم بأن مفهوم "المناطق الآمنة" ليس إلا غطاءً لسياسة تهجير قسري، وأن كل مساحة تُفرغ من أهلها تتحول فورًا إلى هدف عسكري أو استيطاني.

غزة كمختبر أخلاقي للعالم

عملية "عربات جدعون١- ٢" هي تذكير بأن غزة ليست فقط ساحة قتال بل مختبر أخلاقي للعالم بأسره. كيف يمكن للنظام الدولي أن يبرر استمرار الإبادة رغم وضوح الأرقام: 65 ألف شهيد، 165 ألف مصاب، و428 ضحية جوع بينهم 146 طفلاً؟ كيف يُمكن التوفيق بين خطاب حقوق الإنسان ودعم حرب إبادة تُدار علنًا؟ رفح تُعيد هذا التناقض إلى الواجهة: فإذا كانت "إسرائيل" لا تستطيع حماية جنودها في ما تعتبره "آمنًا"، فكيف يمكن لها أن تدّعي أنها توفر "الأمن" لملايين المدنيين الذين هجّرتهم قسرًا وتضربهم في كل مكان؟ حتى أن النازحين والمهجرين من مدينة غزة يرددون "أننا أصبحنا نهرب من الموت إلى الموت".

رسالة عملية رفح واضحة: الاحتلال لا يملك السيطرة الكاملة، والمقاومة قادرة على قلب المعادلات في أي لحظة. كل عبوة تنفجر، كل كمين يُفعل، كل عملية نوعية تُنفذ، تذكر بأن الحرب لم تُحسم ولن تُحسم بالطريقة التي يريدها نتنياهو. بل إن استمرار هذه العمليات يعني أن مشروع الاحتلال نفسه – من تقسيم القطاع إلى تحويله إلى مساحة استيطانية – سيظل محفوفًا بالدماء والإخفاق.

في النهاية، رفح ليست فقط "عملية نوعية"، بل فصل جديد من حرب طويلة تُظهر أن القوة العسكرية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تقتل روح المقاومة. وما يُفترض أنه "آمن للجيش الإسرائيلي"، سيتحول دائمًا إلى ساحة تهدد وجوده، لتُذكّره أن الاحتلال لا يمكن أن يكون آمنًا أبدًا.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور