أدى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى تكوين رأي عام عالمي مناهض للصهيونيّة ومناصر لغزة، وهو ما أتاح تعزيز رصيد القضيّة الفلسطينيّة على المستوى العالمي، بالإضافة إلى تعرية الاحتلال الذي يعيش على سرديّة الحق في استعادة الأراضي الفلسطينية بخطاب ديني تعصبي، مقرون بدعم سياسي مطلق من قبل الإدارة الأميركية والمنظمات الحقوقية والسياسية التابعة لها. وبالنظر إلى أهمية الوجود اليهودي لناحية الكتلة الأكبر في العالم بعد الكيان الإسرائيلي، فإنه من المهم رصد الحركة اليهودية المعارضة للصهيونية في الولايات المتحدة. وتأتي أصوات المعارضة في المجتمع اليهودي الأميركي حركة معاكسة للتيار السّائد، وجهود دعم الحركة الصهيونيّة على المستوى السياسي والإعلامي المموّلة من اللوبي الصهيوني والمدارة من قبله. وفي هذه الورقة السياسية المرفقة أدناه، عرض وتقييم لأبرز التحركات المناهضة للصهيونية في المجتمع الأميركي اليهودي بعد طوفان الأقصى.
يبدو أن واقع الحركة الصهيونيّة في الولايات المتحدة متجذّر في تركيبة المجتمع وهو ما يجعل فرص نجاح أي اتجاه معاكس لهذه الحركة ضعيفًا جدًا بالنظر إلى العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة التي تحدّد توجهات الرأي العام اليهودي في الولايات المتحدة. ففي المجال السياسي، يمتلك اليهود تمثيلاً كبيراً في الكونغرس بالنسبة لحجم الكتلة اليهوديّة، ويحصلون على تمويل دوري من اللوبيّات الصهيونيّة، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على أداء ومواقف النوّاب اليهود تجاه كيان الاحتلال أو سياسة الإدارة الأميركية تجاهه، مثل الدعم العسكري الحالي الذي تقدمه واشنطن لتل أبيب، فمن غير المعقول أن يعترض النواب اليهود في الكونغرس على هذا القرار في الوقت الذي يحصلون فيه على تمويل من لوبي صهيوني، إنما بأفضل الحالات قد تختلف درجات دعم الاحتلال بحسب حجم التمويل الذي ترتبط به مصالح النواب المالية والانتخابيّة. أيضاً على المستوى الشعبي، فتمتلك الحركة الصهيونيّة وسائل إعلام كبيرة ومؤثرة في الولايات المتّحدة كما لديها إعلاميين ونخب ومؤثرين يروّجون لسياسات الاحتلال ويعملون على تبرير جرائمه تجاه الفلسطينيين وسائر شعوب المنطقة. كذلك تعمل الحركة الصهيونيّة على استقطاب طلّاب المدارس الجامعات لا سيما من خلال الرحلات الدوريّة التي يتم إجرائها بشكل دوري إلى الأراضي المحتلّة وتقديمها كحق فلسطيني بحت. وبالتالي نكون أمام واقع سياسي – شعبي شديد الالتحام بالصهيونيّة لناحية العمل والتأثير.
وبلغة الأرقام، في لحاظ النظر إلى حجم حركة المعارضة اليهودية للصهيونية في الولايات المتحدة، يظهر أنها ضعيفة جدًا بالمقارنة مع تأييد الصهيونية في الوسط اليهودي، فحين نتحدث عن حوالي 7 مليون يهودي أميركي، اعترض من بينهم العشرات أو حتى بضع مئات بين نشطاء ومفكّرين ومتظاهرين، ففي هذه الحالة لا يمكن الحديث عن تحوّل في الرأي العام اليهودي ولا حتى اتجاه عام إنما عن حركة معارضة يهودية للصهيونيّة، مع العلم أنها ليست حديثة العهد، فتاريخياً كان له وجود في الولايات المتحدة وتمثل من قبل منظمات يهودية مناهضة للصهيونيّة، وبطبيعة الحال تتحرك في الوقت الحالي لدعم القضية الفلسطينية وإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة.
وفي المقابل، عملت الحركة الصهيونيّة على استغلال الرأي العام العالمي المناصر لغزة من خلال استنهاض مظلوميّة اليهود، واسترجاع ذاكرة الهولوكست لإعادة شدّ العصب القومي وإثارة تعاطف الشعوب الأخرى مع ما يسمى "القضية اليهوديّة" وقد لوحظ ذلك في مئات المظاهرات المناصرة للاحتلال في الولايات المتحدة أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، وكذلك في جرائم الكراهية التي ارتكبها يهود تجاه مناصرين للقضية الفلسطينية، وغيرها من الأحداث النابعة من التحريض.
ختاماً، لا شكّ في أن للمعارضة اليهودية في الولايات المتحدة تأثيراً بمكان لا سيما على المستوى الطلّابي أو في الشارع، أيضاً لآراء النخب والمفكرّين الصريحة في إدانة الاحتلال وإظهار حق الشعب الفلسطيني أهمية كبيرة في مسار تعرية الاحتلال وتظهير إجرامه على المستوى العالمي. وإن كانت هذه التحركات التي تعد إلى حد ما فرديّة إلا أنها يمكن في أن تتطوّر في المستقبل لتشكّل حركة موازية للصهيونية في حال جرى تنظيمها وتأصيلها بجذور تاريخية وسياسية، حتى تخرج عن السياق العفوي لتكون عملاً منظماً، وللبدء في تنفيذ ذلك فإن الأمر يحتاج لبحث عميق ولمدى طويل نظراً لتعقيدات الواقع السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة والارتباط المتجذّر بالحركة الصهيونية.
لتحميل الدراسة من هنا