عبير بسّام-الخنادق
تسير الحرب على سوريا نحو خواتيمها، وقد تستمر المفاوضات لفترة محددة قبل خروج الجيش التركي من الشمال السوري، هذا إن لم يتخل أردوغان عن الاستمرار بسياسة المراوغة. ولكن ما يحدث اليوم سيلعب دوراً مهماً في ترتيب واقع سياسي جديد في العالم. ربط هذا الواقع الجديد بالحرب على سوريا ليس بأمر غريب، فهو مرتبط بأسباب لها علاقة مباشرة بالهيمنة الأميركية في المنطقة خاصة والعالم عامة، والذي أدى إلى صراع عالمي شهد أولى التغيرات المهمة فيه على صعيد الساحة الدولية ولا سيما بعد الدخول الروسي العسكري إليه.
كانت الحرب على سوريا بحجم حرب عالمية، ومن الطبيعي أن نهاية هذا الصراع ستعيد ترتيب الأوراق والتحالفات حول العالم، حرب سجّلت تخلخل القوى في العالم، حيث صعدت دول وتهاوت أخرى. كانت أولى القوى العالمية الصاعدة الصين وروسيا، ومن خلال الدور المتميز الذي لعباه في مجلس الأمن منذ بداية الحرب على سوريا، والوقوف في وجه تشريع التحالف الدولي بقيادة أمريكا في مجلس الأمن، تباين في مواقف مجلس الأمن لم نشهد له مثيل منذ انهيار الإتحاد السوفياتي. إذ حاولت الولايات المتحدة تشريع الحرب على بلد مساحته 185 ألف كيلومتر مربع من أجل قلب النظام فيه واستمرت بالمحاولات المستميتة حتى بعد التدخل الروسي إلى اليوم، فالعدوان الثلاثي على سوريا في العام 2018، والذي مازال حياً في الأذهان. ما أراد التحالف الدولي فعله إعادة تمثيل جرائمه في العراق 2003 وفي ليبيا 2011، مرة أخرى في دمشق: اجتياح عسكري مقونن من أجل قلب النظام، وتقسيم البلد والسيطرة على منابع الطاقة والثروات الطبيعية، وتفكيك الجيش والقوى الأمنية لبث الفوضى فيه لمصلحة مصالحها وربيبتها "إسرائيل".
ومن كان ليصدق ان الحليف الأكبر لروسيا سيغدو اليوم الصين! لم تكن الصين خلال إنقسام العالم ما بين معسكرين شرقي وغربي على الحياد، صحيح أنها لم تلعب دوراً لافتاً في إدارة السياسات الدولية، ولم تتدخل كدولة عظمى في مندرجات الحرب الباردة التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين في العام 1989، غير انها كانت محايدة وعلى توافق مع الولايات المتحدة في الخط العام ضد الإتحاد السوفياتي، وخاصة بعد زيارة نيكسون في العام 1972، والتي كان لها تأثيرها القوي حين قبلت موسكو بدخول اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وفي وقت نفسه حافظت الصين على حلفائها فرفضت الضغط على شمال فيتنام حين تم اللقاء مع نيكسون. ومقابل الضغط لتوقيع اتفاق الحد من انتشار الأسلحة النووية أعيد للصين مقعدها في الأمم المتحدة بعد أن كانت تحتله تايوان، وتم التراجع عن الإعتراف بها كدولة مستقلة عن الصين، واستؤنفت فيما بعد العلاقات الدبلوماسية ما بين الصين والولايات المتحدة في العام 1979.
ولكن الصين اليوم، تصعد لتجد موقعها كقوة عظمى تدير الصراع في العالم، ولكن، ليس دون تنسيق تام مع الحليف الروسي، وفي الحقيقة أن المصالحات التي تشهدتها المنطقة ما بين إيران والسعودية بإدارة صينية، وبين الدول العربية وسوريا، والتي يبدو انها جاءت بإيعاز صيني من اجل الدفع نحو مزيد من الإستقرار في المنطقة وخاصة بعد الدخول منطقة الخليج ضمن مشروع "حزام وطريق". ومن ضمن هذا الدفع نحو المصالحات ما بين السعودية وإيران والسعودية واليمن اليوم، يثبت أن الصين وروسيا باتا يمثلان قطباً عالمياً هاماً لا يستهان به في وجه الولايات المتحدة.
أهمية التدخل الروسي في سوريا والوقوف إلى جانب الدولة فيها من أجل ليس فقط منع سقوطها أو تقصير أمد الحرب عليها، ولكن من أجل الوقوف إلى جانبها خلال عملية النهوض ورفع آثار الحرب فيها. ولكن علينا هنا أن نتذكر الدور المهم الذي لعبته سوريا في الوقوف إلى جانب روسيا قبل بدء الحرب، فقد رفضت سوريا أن تلعب دوراً في إحكام القبضة الأميركية على روسيا من خلال تمرير مشروع خطوط الغاز القطرية عبر الأراضي السورية إلى تركيا، ومن ثم إلى أوروبا، وبالتالي الدفع نحو وقف استيراد الغاز الروسي إلى اوروبا. وهذا كان واحداً من أهم أسباب الحرب على سوريا، وهو من أهم أسباب وقوف روسيا إلى جانب سوريا في الحرب عليها.
أما السبب الآخر، هو الدور الذي لعبته سوريا في دعم حركات المقاومة وخاصة عندما كشف السيد حسن نصر الله في خطابه في تموز 2012، عندما قررت المقاومة الذهاب لمساندة الجيش والقيادة السورية في حربها ضد الإرهاب، أن الصواريخ التي قصفت على حيفا في العام 2006 هي سورية الصنع، وكذلك الصواريخ التي أطلقت من غزة وأحدثت فرقاً استراتيجياً كبيراً في العام 2009.
السببان الأساسيان في الحرب على سوريا يظهر حجم الصراع في المنطقة، ومدى حدة التوجه عند الإدارات الأميركية من أجل بسط السيطرة كاملة على الشرق الأوسط، ولذلك فإن الدخول الروسي على خط الصراع لم يكن بالأمر السهل، في حين كانت روسيا في تلك المرحلة منخرطة في حربها مع جورجيا، وتحاول لملمة نتائج الإنقلاب في أوكرانيا على الرئيس الموالي لها فيكتور يانوكوفيتش في العام 2014، حيث قاد الإنقلاب لانتخاب زيلنسكي الموالي للولايات المتحدة. أي أنه عملياً نقلت الحرب الأميركية ضد روسيا إلى عتبة دارها.
كثير من التفاصيل حول طريقة دخول الروس على خط الصراع في الحرب على الإرهاب في سوريا غير واضحة المعالم، ولكن هناك بعض الحقائق المتعلقة به والتي باتت معروفة لدى الجميع. حقائق تتعلق، أولاً، بالدور الأميركي المتعلق بالصراع في المنطقة، واحتلال منطقة شرق وشمال سوريا تحت مسمى التحالف ضد الإرهاب، ومحاولة السيطرة على دمشق وما كشفه الرئيس السوري بشار الأسد لوسائل الإعلام حول المطالب الأميركية، التي حملها وزير الخارجية كولن باول منذ العام 2003 إبان الحرب على العراق والمتعلقة بالمقاومات في لبنان والعراق وفلسطين. ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة باتت تتدخل في بلاد الشام والعراق بشكل مباشر، وليس مخابراتياً ومن خلف الكواليس فقط، تماماً كما حدث في العام 1954 حين رست نيوجرسي مقابل شواطئ جونية.
وثانياً، الدور الواضح المتعلق بدخول الروس، هو انتداب قام به الشهيد قاسم سليماني ودوره في شرح واقع الأحداث في سوريا مع بوتين وخاصة ما يتعلق منها بالوضع العسكري والأمني في سوريا وأهمية التدخل الروسي من أجل وقف العمليات الإرهابية ووقف الزحف الأميركي- الصهيوني للتحكم بواسطة العقد، في حال سقطت سوريا، وهذا سيعني استمرار الهيمنة الأميركية. لقد شرح سليماني لبوتين خلال ساعات من اللقاء بعد أن كان مقرراً لساعة فقط، أنه لدى روسيا فرصة مهمة لتعود وتكون إحدى اقطاب العالم مرة أخرى إذا ما تم ربح المعركة في سوريا. خاصة وأن الشهيد سليماني قدم شرحاً ميدانياً تفصيلياً للوضع، وهو ما لم يشرحه أي ضابط روسي من قبل.
مثّلت سوريا حليفاً مهماً وتاريخياً للإتحاد السوفياتي على سواحل المتوسط، ومنذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر، وبعد سقوط الرئيس الليبي معمر القذافي وفقدان روسيا لقدرتها في الوصول إلى أي من موانئ البحر المتوسط. بعد أن حسبها بوتين جيداً، والذي أراد أن يؤجل معركته المحتمة في أوكرانيا، وهذا ما كشفه لنا مصدر حين قال إن الجماعات الإرهابية التي كانت تقاتل في سوريا كانت تأتي من كل حدب وصوب في آسيا الوسطى من جماعات الإيغور والشيشان والتركمان وأذربيجان وقيرغيزيا.. ومثّلت تشكيلات داعش والتي شكلت تهديداً حقيقياً على الأمن في روسيا والصين تخلصت منها من خلال قتالها في سوريا، وعندما قال المصدر لضابط روسي كبير في سوريا سنقف معكم في أوكرانيا فجاء الجواب سوريا أولاً، ثم سيأتي دور الأزمة أوكرانيا.
لقد حسبها بوتين جيداً، وتبين فعلياً أن روسيا من خلال دخولها في الصراع مع أميركا على الأراضي السورية فإن النتيجة ستكون بإنزال الأخيرة عن عرش هيمنتها على العالم وبدأ صعود القوة التي قهرت أمريكا وفضحت هيمنة الدولار الوهمية.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU