لم يخل الأسبوع الماضي من حالة من الترقب والبطولات على جميع الجبهات في سوريا ولبنان وفلسطين، خاصة بعد القصف الذي شهده شمال فلسطين، حيث تزامن اقتحام الأقصى مع أقوى عملية بطولية شهدتها فلسطين المحتلة في الأغوار منذ أيام، وتلاها رد المقاومين على اقتحام الأقصى بتنفيذ عملية في تل أبيب. العمليتان تسببتا بصدمة كبيرة لقيادة الكيان وأظهرتا ضعفه على المستوى الأمني. تأتي العمليات الفدائية للفلسطينيين ضمن سلسلة من العمليات الصغيرة والبطولية التي ابتدأت منذ مدة، والتي لن تنتهي قريباً بالتأكيد. في هذه الأجواء انطلقت صواريخ من مواقع في داخل الجولان وجنوب لبنان وغزة لتقصف مواقع الكيان الصهيوني تضامناً مع المعتصمين في عملية إقتحام الأقصى الدموية التي نفذها الصهاينة. ولكن هل جاء إطلاق الصواريخ رداً على الإعتداءات الصهيونية المتكررة بإقتحام المسجد الأقصى؟ أم هو هروب صهيوني إلى الأمام؟
عند الإجابة على هذين السؤالين علينا الأخذ بعين الإعتبار التغيرات التي تحدث في العالم وفي الإقليم. إن الأحداث العالمية فائقة الأهمية في الدفع نحو نظام عالمي جديد، ليس على الطريقة الأميركية والتي تحدث عنها جورج بوش الأب بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وإبان الدخول في حرب الخليج الأولى خلال اجتياح صدام حسين للكويت، وليس على طريقة بوش الإبن "من ليس معنا فهو ضدنا"، وليس على طريقة باراك اوباما ونائبه جو بايدن، في إشعال العالم عبر نشر الفوضى الخلاقة ممهورة بسلسلة الربيع العبري التي انتهكت حرمة الأرض والإنسان وخلقت داعش في ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين والعراق، ولكن من خلال التصريحات المتتالية التي يتحدث فيها قادة قادمون من الشرق عن نظام عالمي خال من الهيمنة الأميركية. إنه التغيير، الذي ابتدأ اليوم في شرق الكرة الأرضية وكأن الشرق قد استفاق بعد سبات طويل.
كلا، لم يكن الشرق في سبات، بل كان في حالة ترميم وتجديد! ومعظم بلاد الشرق تكمل اليوم معركة شرسة فرضت عليه منذ أكثر من مئة عام ضد الهيمنة الإستعمارية الغربية المباشرة وغير المباشرة. والدليل أن عمق معركة الشرق باتت اليوم أقوى ومتمرسة أكثر في المعارك مع الغرب، خاصة بعد أن استطاع اليوم تحويل الخناجر المشرعة ضده ليوجهها نحو عدوه. وأحد هذه الخناجر الدولار، الذي ابتدأت أهميته بالتراجع كعملة عالمية، وآخر هو الإرهاب التكفيري وأهمها هو الكيان الصهيوني، والذي باتت تسميته بالكيان المؤقت جزء من المعركة الفاصلة نحو تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
وهنا يخطر في الذهن سؤال آخر، حول إذا ما كان القصف المدفعي من الجولان لشمال فلسطين في ليلة السبت- الأحد الماضي هو جزء من الرد على تمادي العدوان في سوريا وفلسطين أم هو فبركة "إسرائيلية" للهروب إلى الأمام؟ والجواب يكمن في ردات الفعل. إذ رد الجيش العربي السوري على الكيان في الجولان بقصف مواقعه في الجولان المحتل. ومع أن الدولة السورية لم تتبن العملية، إلا أنها لم تستنكرها ولم تصف القصف من أراضيها بأنه خرق للسيادة. ولذا يمكننا القول أن ما حدث ليس بعيداً عن بوادر المعركة الكبرى، التي تحدث عنها السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، خلال خطاباته العامة والخاصة، التي ألقاها في الآونة الأخيرة. وله علاقة بالخطاب الذي ألقاه الإمام السيد علي الخامنئي، عندما تحدث ليلة اقتحام الأقصى عن استعجال الكيان لزواله. قصف يعبر عن التضامن الذي شهده جنوب لبنان بعد إطلاق الصواريخ على شمال فلسطين، مع أن حزب الله لم يتبن العملية ولكنه لم ولن يدينها بالتأكيد، فموقف الحزب ثابت في الوقوف إلى جانب المقاومة في فلسطين، فمنذ سنتين تقريباً عندما اطلقت الصواريخ على شمال فلسطين، يومها نفى حزب الله قيامه بالعملية، ولكن قال عنها السيد نصرالله عنها: “إنه شرف لا ندعيه"!
قد يحاول البعض الإيحاء بأن المستفيد الوحيد من إطلاق الصواريخ من النقاط الثلاثة هو الإسرائيلي المأزوم في الداخل، والذي يحاول كما العادة تصدير أزمته إلى الخارج، وأنه يحاول جر المنطقة إلى حرب قد تكتب له النجاة فيها. فبعد القصف الصاروخي على شمال فلسطين من الساحات الثلاث قامت "إسرائيل" بقصف دمشق بعد ردها على إطلاق المدافع الصهيونية في الجولان تماماً كما قصف الطيران المعادي جنوب لبنان وغزة ثم أٌعلنت نهاية العمليات، وفي هذا دليل هام على أن العدو الاسرائيلي أراد التصعيد والهروب من أزمته الداخلية. ولكنه لم يستطع.
والعدو ليس مردوعاً في جنوب لبنان وغزة فقط، بل هو مردوع في سوريا أيضاً. وأما الحديث عن عدم القدرة على ردع قصف طيران الكيان المتكرر في سوريا، فهو كلام غير دقيق، فالعدو غير قادر على إعادة تجربته في السلطان يعقوب في العام 1982. وتجربة حرب الطيران، التي شهدها في حرب تشرين 1973. وهو غير قادر على اجتياح بري ولو لمساحات صغيرة لأن ذلك محفوف بمخاطر خبر نتائجها في جنوب لبنان 2006، وهو غير قادر على الإعتماد على أصدقائه في أمريكا الذين ضاقوا بتصرفات رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو في الداخل الصهيوني قبل خارجه، وهو غير قادر بالتأكيد على الإعتماد على الصمت الروسي، خاصة بعد أن ثبت وقوفه ومساندته لنظام كييف في الحرب الأميركية الروسية في أوكرانيا، ولأنه يعلم أن قوة الشرق المدعومة بالتطور العسكري الكبير في إيران لن تقف صامتة أمام اختراقه لأي من الخطوط الحمر.
ومن الأزمات التي يحاول الصهاينة تجاوزها، هو ذلك التقارب العربي وانفتاح العرب على سوريا، والذي سيضرب أكبر كذبة روّجت لها خلال الحرب على سوريا بأن النظام في سوريا يحميه الأميركيون والإسرائيليون، لقد أراد الكيان من خلال إعادة توجيه التهم بالإرهاب إلى أولئك الذين يدعي إطلاقهم الصواريخ جذب انتباه المتظاهرين في تل أبيب للخروج من الشوارع عبر رفع مستوى القلق وجر المنطقة إلى حرب إقليمية لم يحن وقتها وتوقيتها بعد. حرب يحاول عبرها الهروب من الأزمة السياسية الداخلية، وأزمة تصاعد الإنتفاضة، التي لم يعد قادراً على ردعها. فالكيان المؤقت اليوم مردوع بالخوف على وجوده.
إن الهجمات "الإسرائيلية" الأخيرة ليست إلا نتيجة ضعف التخطيط الإستراتيجي في داخل الكيان، وشعورهم بان الأزمات الداخلية باتت تحكم الخناق على رقابهم. وبعد الهجومات على شمال فلسطين حاولت حكومة الكيان اللعب على وتر خرق أمن الكيان من قبل دول الجوار، لكن محور المقاومة لم يبتلع الطعم في جنوب لبنان وفي سوريا وحتى في إيران وعلى العكس كان التوجه الصهيوني نحو عدم التصعيد، وببساطة لأن توقيت المعركة الكبرى لم يعد بيد الصهاينة، فجيشهم يعرف مقدراته، إذ رفض قادته العسكريون الدخول في مواجهة في المرحلة الحالية. كما لم يستطع الكيان التأثير بالرأي العام العالمي وحجب الأنظار عن القمع الذي يقوم به في داخل الأقصى. في كل الأحوال لن ترد دمشق بإسقاط الطائرات المهاجمة من حدود شواطئ لبنان، ولكنها بالتأكيد ردت وترد على أي قصف أرضي مباشر لأراضيها من داخل فلسطين، أي أن دمشق ليست عاجزة عن الرد بالتأكيد، ولكن الرد على القصف الجوي سيكون فعلياً في الزمان والمكانين المناسبين.
ولنتخيل، ماذا لو لم يوقف الجيش المصري عملية القصف من سيناء بإتجاه فلسطين! في الحقيقة، أن الفكرة بحد ذاتها ملهمة جداً، وعلينا التفكير إذا ما بتنا اليوم فعلياً في مرحلة فتح الساحات. وإذا ما فتحت الساحات جميعها لمقاومة العدو الصهيوني، فماذا سيكون مصيره حينئذ؟ عندها سنكون قد دخلنا إما مرحلة حرب عالمية جديدة أو دخلنا مرحلة معركة التحرير الكبرى، وفي الحالتين فإن هذا سيعني بالتأكيد نهاية الكيان المؤقت، ولذلك نحن أمام مرحلة يجب الوقوف عندها، وأن يوقف رئيس الكيان بنفسه عملية اقتحام المستوطنين للأقصى، فهذا يعني أن زمن حرق الأقصى مع صمت ليس عربي فقط، بل عالمي مدقع قد انتهى.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU