لن تجد اسمه أو صورته في الصحف الأجنبيّة والعبريّة، أو في الوثائق السرية لدى الشاباك و CIA، تلك التي اعتادت قنصَ الفرص لاغتنام معلومة تتعلق بأحد كوادر حزب الله. كانت إحدى نقاط قوته، ان العدو لا يعرف عنه شيئاً. فـ "الحاج صالح"، المسؤول الأمني الأول للحزب في سوريا، الذي أتقن عالم الأمن والاستخبارات، كان يؤدّي عملَه الأمني بحذرٍ شديد. تماماً، كما يجب أن يكون صديق الحاج الشهيد عماد مغنية، الذي تنقّل معه على مختلف الجبهات. لم يعرف أهالي قرية الخرايب الجنوبية، واللبنانيون اسمه إلا بعد وفاته. إلّا ان الأرض، تلك التي احتضنته في الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى حلب والموصل، تعرفه جيداً، بوطأة قدمه الخفيفة وتحركاته المدروسة الغامضة والليالي التي قضاها إلى جانب الدُشم في العراء.
نعى حزب الله "فقيد الجهاد والمقاومة القائد الحاج أسد محمود صغير "الحاج صالح"، اليوم الجمعة. وقال في بيانه ان الحاج "ارتحل بعد صراع مع المرض خاتماً تاريخاً جهادياً كبيراً عرفته ساحات العطاء والتضحية". يعرف الحزب حق الحاج جيداً، وهو من أوائل الملتحقين به والمؤمنين بقضيته.
سيرته الجهادية: إنجازات على مختلف جبهات المقاومة
تنظيمياً، بدأ القائد الجهادي عمله داخل الحزب بالملف الأمني منذ البداية. ونجح وأبدع في الكثير من العمليات، خاصة في مجال المنظومات الأمنية وعمل الوحدات وبناء العمليات الأمنية المتعلقة بتحصين المقاومة من الاختراقات ضد العدو الإسرائيلي. حيث عمل كمنسق بين مجموعة من المسؤولين الأمنيين منذ ما قبل التحرير عام 2000. كما ساهم في بناء القدرات الأمنية لمحور المقاومة في مواجهة التحديات التي كانت قائمة، منها الاحتلال الأميركي للعراق، ومنها المواجهات الفلسطينية، ثم المشروع التكفيري.
رافق الحاج صالح، الحاج عماد مغنية وكان على احتكاك وتنسيق مباشر معه. وقام بأول عمل امني عام 1982 بتكليف منه وهو الذي اكتشف مواهبه، وأن لديه قدرات خاصة فآمن به وفتح له هذا الطريق، مستفيداً من خبرته وعمله، ليصبح لاحقاً أحد معاونيه الأساسيين الذي تولى إدارة عمليات التطوير والبرامج. ولأن الرجلين آمنا باستراتيجية "توحيد الساحات"، كان الحاج صالح أول مَن نظم المجموعات التي وصلت إلى العراق للمساعدة في تشكيل وتدريب ومساندة فصائل المقاومة العراقية بعد عام 2004، لمواجهة الاحتلال الأميركي للبلاد. ثم زارها مرة أخرى بعد سقوط الموصل في حزيران/يونيو عام 2014.
بعد استشهاد الحاج مغنية، باتَ يُنظر إلى الحاج صالح على أنه من "البقيّة الباقيّة"، بشخصيته المِقدامة الذكية المُلهمة التي تحفظ دروبَ الحزب جيداً. وهذا ما دفع الشهيد القائد مصطفى بدر الدين "السيد ذو الفقار"، إلى ان يصرّ على مرافقة الحاج صالح له، منذ بداية الحرب على سوريا عام 2013.
شكّل القائد أسد صغير، حالة استثنائية في العمل الجهادي في سوريا. اذ انه قام بنقلة نوعية في العمل الأمني الاستخباري، بإحداث خرق في صفوف التنظيمات الإرهابية المسلّحة، نتج عنه تصفية عدد من كبار الإرهابيين. كما كان شريكاً للأجهزة الأمنية السورية ببناء قواعد بيانات وبنى تحتية استخباراتية تُعد من أهم ما وُضع خلال الحرب.
بعد استشهاد الحاج ذو الفقار في 13 أيار/ مايو عام 2016، تسلّم الحاج صالح الملف الأمني لحزب الله في سوريا، أو ما يطلق عليه اسم "وحدة 9000". كان حريصاً على ألّا يُعرف البَتّة. حيث لم تستطع الأجهزة الإستخباراتية الأميركية والإسرائيلية الحصول على معلومة عنه وعن طبيعة عمله والمهام الموكلة إليه.
وقد ساند الحاج صالح الجهات الأمنية التي كانت تعمل في المنطقة سواء في العراق او إيران او سوريا على صعيد التدريب والتطوير والاستشارات بناءً لخبرته الشاملة في المجال الأمني في مواجهة العدو الاسرائيلي والتكفيري. كما لعب دوراً مركزياً في مطاردة وتقليص عدد العملاء الصهاينة في سوريا ولبنان وقدم إنجازات استثنائية ومهمة في هذا الملف، ما أثار إعجاب وتقدير الرئيس السوري بشار الأسد، مرات عدة.
ومن المهام التي أشرف على إنجازها كان ملف المفاوضات مع التنظيمات الإرهابية في سوريا، لاستعادة جثامين شهداء المقاومة إلى لبنان، الذين ارتقوا خلال المواجهات، خاصة في حلب، التي كان يتردد إليها لمتابعة أعمالها من حين الى آخر ، الى حين موعد تحريرها بالكامل. كما يُذكر أنه قد أبدى اهتماماً خاصاً كجزء من ملفاته في فك الحصار عن نُبّل والزهراء وكفريا والفوعة.
علاقته بالسيد حسن نصرالله
عُرف الحاج صالح بقربه من الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله. حيث نال ثقته من الناحية الشخصية والعملية، ما جعل تقديراته محل عناية خاصة في معظم المجالات التي يتصدى لها. خاصة وأنّ عمله الميداني في عدد من الساحات، خبرته ومعلوماته التي راكمها خلال العقود الماضية، أصقل هذه الثقة بشكل تراكمي. إضافة لدرايته الواسعة بالحرب النفسية والدعائية. وتمتد هذه العلاقة لتشمل قائد محور المقاومة الشهيد الحاج قاسم سليماني، حيث كان الحاج صالح يتابع العديد من الملفات بناء على طلب الشهيد سليماني، وذلك لموقعيته ودرايته في المهام والاعمال التي يقوم بها.
المسؤول الأمني عن مقام السيدة زينب (ع)
بتكليف مباشر من السيد نصرالله، تولى الحاج صالح، مسؤولية الحماية الأمنية والعسكرية الخاصة بمقام السيد زينب (ع)، ولذلك لم يتعرّض المقام إلى أي تهديد حقيقي طيلة سنوات الحرب، على الرغم من التهديدات المستمرة بتفجيره وازالته.
كان الحاج أسد، يتردد إلى المقام في ساعات متأخرة من الليل وحيداً، يقوم بنفسه بالتأكد من تطبيق مختلف الإجراءات الأمنية المتخذة. حتى بات يعرف كحارسٍ أمين صلب قوي، لا يتسلل إلى قلبه سوى سكينة الحَرَم، واعتبر أعلى شرف له أن يكون في خدمة مقام السيدة زينب (ع).
حياته الشخصية
يقول أحد المقربين من الحاج الفقيد، أنه كان يتمتع بشخصية هادئة استثنائية، صاحب رؤية تحليلية استراتيجية للأمور، يمتلك ثقافة علمية رفيعة، وخريج الجامعة اللبنانية بعلوم التكنولوجيا. مُتديّن خلوق مُستَمع. لم يكن يشعر أحد "منا" أنه بموقع مسؤول لشدة تواضعه. أخفى مرضه عن عائلته واقاربه حتى اللحظات الأخيرة، حفاظاً على مشاعرهم، وبقي متماسكاً قوياً مؤمناً صابراً ملتزماً بأدق تفاصيل علاجه. كما أنه استمر بقيامه بمهامه دون انقطاع ابداً ويتابع بريده واتصالاته من منزله.
عُرف بِكَمّ المعلومات الهائل الذي يختزنه. ويقول أحد أصدقائه، أنّ لديه قصصاً وروايات أمنية مثيرة ومشوقة ترتبط بيومياته ومطاردته للعملاء الإسرائيليين والتكفيريين وأخرى عن زملائه بالعمل الجهادي نتيجة عمره وخبرته الطويلة التي بناها داخل جسم الحزب. -سيقوم موقع الخنادق بنشر بعض منها في وقت لاحق-.
الوفاة:
بعد تراكمات التعب والإجهاد والقلق الدائم على أمن المقاومة وشخصياتها ومصالحها الاستراتيجية، على مدى عقود من الزمن، أصيب الحاج أسد صغير بمرض السرطان في القولون، وتم تشكيل لجنة لمتابعة حالته الصحية من مجموعة من الأطباء وتم علاجه في لبنان وشفي لمدة سنة تقريباً، بفضل "دعاء المؤمنين والتربة الحسينية التي كان يؤمن بها". ثم استأنف نشاطه مجدداً وعاد إلى عمله كالمعتاد. إلا ان المرض عاد مجدداً، وهذه المرة استوطن كبده ورئتيه ما أدى إلى تفاقم وضعه الصحي ثم إلى وفاته في مستشفى الرسول الأعظم (ص).
الكاتب: مريم السبلاني