عاملان اثنان يحددان الخصائص الذهنية للشعوب، هما العامل التاريخي والبيئي، إلا أنّ فكرة الاستثنائية القومية أو الاستثنائية الثقافية، لها التأثير الأكبر على العديد من الثقافات، وبالدرجة الأولى الصين، التي تعدّ السلف الأصلي للثقافات الشرقية. الشعار الرئيس في الصين هو: نحن اخترعنا كلّ شيء. اخترع الصينيون الورقة والمطبعة والبارود والخزف، وكثيرًا غير ذلك مما يستعمله العالم أجمع. الصينيون مقتنعون أن ما من أمّة أخرى، ولا من ثقافةٍ أخرى يمكن أن تقارَن بهم. وأن توضع على قدم المساواة معهم. هم يفكرون على الشكل التالي: نحن فوق الجميع، نحن كلّ ما تحت السماء، نحن أبناء الربّ. وهذه النفسية المقترنة بحبّ العمل، وباجتهاد خيالي، وقدرة إبداعية، تمنح الصينيين تلك النتائج التي يفتخرون بها. لذلك غالبًا ما كانوا ينغلقون عن بقيّة العالم، مع حبّهم لكل ما هو صينيّ بالدرجة الأولى. من هنا يجب أن ننطلق لفهم الحركة الصينية حول العالم، سواء كانت اقتصادية أو دبلوماسية، أو ما تسميه وزارة الخارجية الصينية بـ Core Interest أو "المصالح الجوهرية"، وهي الأهداف الاستراتيجية للبلاد.
تأثير العامل التاريخي والبيئي على "المصالح الجوهرية"
على المستوى التاريخي
عند دراسة سياسة الصين الخارجية، أو تعريف مصالحها الجوهرية، لا يمكن تجاهل الحقبة التاريخية الممتدة من عام 1839 إلى عام 1949، أو ما اصطلح على تسميته في الصين "قرن الإذلال". إذ انطبعت تلك الحقبة في ذاكرة الصينيين على أنها حقبة سوداء شهدت هزائم عسكرية مذلة على يد القوى الأجنبية الخارجية. وفقدان الأمة الصينية حق السيادة عبر اقتطاع أجزاء من الوطن ومنحها لدول أخرى. حاول ماو تسي تونغ إعادة الأمة الصينية إلى مجدها في عام 1949، عندما أعلن أنّ "الشعب الصيني، الذي يضمّ ربع البشرية، قد نهض اليوم".
تعاملت الصين مع العالم بعد الحرب العالمية الثانية على الشكل التالي: حرصت أن تكون عضوًا أساسيًا وملتزمًا داخل الأمم المتحدة، وطغى تطوير الاقتصاد على توجهات القيادة الصينية طيلة العقود الماضية مع استثناء للحقبة الماوية، حيث سرعان ما أدرك الحزب الشيوعي الصيني أنّ أفقها مسدود، وتعلم من تجربة الاتحاد السوفياتي أنها ربما تؤدي إلى انهيار البلاد. وعلى هذا يمكن القول، إنّ تعريف الصين مصالحها الجوهرية لم يبدأ إلا بعد حقبة انهيار الشيوعية السوفياتية، ومع بداية الألفية الثانية للبلاد، بدأت القيادة الصينية باستخدام مصطلح "المصالح الجوهرية"، وتحديدًا في عام 2003، مع تزايد قلق بكين من استقلال تايوان، ولتذكير العالم بـمبدأ "الصين الواحدة"، عندما قال وزير الخارجية الصيني تانغ جيا شيوان لوزير الخارجية الأمريكي كولن بأول: "إنّ قضية تايوان تتعلق بالمصالح الجوهرية للصين والتعامل مع هذه القضية على نحو صحيح هو المفتاح لضمان علاقات مستقرة بين الصين والولايات المتحدة". لكن حينها لم تكن المصالح الجوهرية الصينية واضحة بشكل رسمي.
وفي عام 2009، وضمن فعاليات الحوار الاستراتيجي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، حدد عضو مجلس الدولة الصيني داي بينغ جو ثلاث ثوابت للسياسة الخارجية الصينية "بالنسبة للصين، قلقنا أولًا هو لبقاء النظام والأمن القومي، ثانيًا، ضمان سيادة الصين وسلامة أراضيها، وثالثًا، توفير الضمانة الاقتصادية والاجتماعية المستدامة". ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الصين تنتهج سياسة خارجية أكثر حزمًا من السابق، لكنها متناغمة مع النظام الدولي.
على المستوى البيئي
مجموعة من التحولات حصلت في البيئة الدولية دفعت إلى تبلور المصالح الجوهرية كنقاط ثابتة وخطوط حمراء في سياسة الصين:
أولًا: أزمة الركود العالمي
في الوقت الذي كان العالم يشهد أزمة الركود الاقتصادي عام 2008، كانت الصين تحافظ على معدلات نموها العالية. بدأت الصين تتحسّس قدراتها، وتشعر بأن الوقت قد حان لزيادة النفوذ السياسي، خاصة في ظلّ تزايد التدخلات الخارجية في إقليمي التيبيت وشينجيانغ، واستخدام الولايات المتحدة لتايوان لمحاربتها.
ثانيًا: انهيار بعض الأنظمة العربية وورقة التنمية السلمية للصين
وفي عام 2011، وليس صدفة متزامنة مع أحداث ما يسمى الربيع العربي، وانهيار بعض الأنظمة العربية على يد الدبلوماسية الأمريكية، أصدرت الصين ورقة بعنوان "التنمية السلمية للصين" لتحدّد بوجه عام المصالح الجوهرية للبلاد وتشمل العناصر التالية: "سيادة الدولة، الأمن القومي، سلامة أراضيها وإعادة الوحدة الوطنية، النظام السياسي في الصين الذي تأسس حسب الدستور، والاستقرار الاجتماعي الشامل، والضمانات الأساسية لضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة".
ثالثًا: انسحاب الولايات المتحدة من آسيا
ثم حدث تطور مهمّ أسهم في الاندفاع أكثر نحو قوة دبلوماسية صينية، وهو إعلان الولايات المتحدة رسميًاً عن تحول كبير في استراتيجيتها في عام 2012 تحت عنوان إعادة التوازن لقواتها في آسيا. إذ أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية في 5 كانون الثاني/يناير 2012 وثيقة بعنوان "المحافظة على القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات الدفاع في القرن 21". أشارت فيها بوضوح إلى تنامى القوة العسكرية الصينية بوصفها عاملاً أساسيًا وراء إعادة التوازن.
رابعًا: تعزيز قوة الجيش الياباني
تطوّر آخر مهمّ بالنسبة للصين حصل عندما انتخب اليابانيون في كانون الأول/ديسمبر 2012 شينزو آبي رئيسا للوزراء، المعروف بتوجهاته القومية المتطرفة التي تدعو إلى تعزيز قوة الجيش الياباني، وانتهاج سياسة خارجية قوية . وقد عزز ذلك مخاوف بكين من أن تؤدي جميع هذه التطورات إلى تسارع السياسات التي تهدف إلى احتواء الصين.
خامسًا: انتخاب شي جين بينغ
صعود شي جين بينغ إلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 وإلى رئاسة الصين في آذار/مارس 2013 قد أسهم في إنضاج السياسات الجديدة. فقد ظهر الرئيس شي كأقوى زعيم في الصين منذ رحيل دينغ هسياو ينج في تسعينات القرن الماضي، وبدأ يتبنى مصطلحات مثل "الحلم الصيني" و"التجديد الوطني" والتي تسعى إلى تعزيز مكانة الصين كقوة عالمية. وعليه، بدأت بكين بانتهاج سياسة أكثر حزمًا فيما يتعلّق بالجزر التي تريد الصين استعادتها من اليابان، ومعظم مساحة بحر الصين الجنوبي، باعتبارها جزءًا لا يتجرأ من الصين. ومن ضمن "المصالح الجوهرية" التي لا تقبل التنازل. (تكتسب هذه الجزر أهميتها من قربها من ممرات استراتيجية للتجارة بالإضافة إلى كونها موقعًا هامًا للصيد ومكانًا خصبًا برواسب النفط).
سادسًا: نظام الدفاع الصاروخي "ثاد" في كوريا الجنوبية
عام 2017 نشرت الولايات المتحدة نظام ثاد المضاد للصواريخ في كوريا الجنوبية بحجة اعتراض الصواريخ الكورية الشمالية والدفاع عن جمهورية كوريا. كان أول رد فعل على تصريحات واشنطن حول جاهزية نظام ثاد، أن طالبت الصين بتعليق العمل فورًا، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية غينغ شوانغ أمام الصحافيين "نحن نعارض نشر نظام ثاد في كوريا الجنوبية، وندعو الأطراف إلى وقف هذا النشر فورًا وسنتخذ بحزم الإجراءات اللازمة للدفاع عن مصالحنا".
حينها أصدرت الصين كتابًا (أو ما يصطلح عليه ورقة بيضاء) بعنوان "سياسات الصين حول التعاون الأمني في آسيا والمحيط الهادئ" أعادت فيه التشديد على حقوق الصين السيادية في البحر الصيني الجنوبي، وعلى الجزر التي تحتلها اليابان في بحر الصين الشرقي ورأت أن نشر النظام الصاروخي لحماية كوريا الجنوبية من كوريا الشمالية هي مجرّد مزاعم، وأنّ هذا النظام "يضرّ على نحوٍ خطير في التوازن الاستراتيجي الإقليمي والمصالح الأمنية الاستراتيجية للصين وغيرها من بلدان المنطقة". خاصةً أنّ الولايات المتحدة، كانت قد أشارت في أولوياتها للقرن 21 كما ذكرنا أعلاه، إلى أنّ تنامي القوة العسكرية الصينية هو السبب وراء سعيها لإعادة توزيع قواتها في آسيا.
في هذه المرحلة، يمكن القول إنّ الأمور كانت قد وصلت إلى ذروتها فيما يتعلّق بحماية "المصالح الجوهرية" بدخول العامل العسكري بشكل مباشر في ظلّ خطاب يركّز على السلام والاستقرار، وعلى الرغم من بروز العامل العسكري، إلا أن الورقة نفسها التي ألمحت للتدخل العسكري، ركّزت في نفس الوقت على "رؤية الصين للحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة من خلال الحوار". وبهذا تزداد قناعة الصين بالحاجة إلى قرار التدخل السياسي بعد عقود من التركيز الاقتصادي لحماية "مصالحها الجوهرية".
سابعًا: إطلاق مبادرة الحزام والطريق
تدرك الصين جيدًا أن إطلاق أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، وهو مبادرة الحزام والطريق، يحتاج إلى جهود سياسية أيضًا بل إلى نفوذ سياسي. عام 2017 تمّ إدخال المبادرة إلى الدستور الصيني كمسألة تقع في صميم المصالح الجوهرية للصين. والآن، وبدءً من هذا التاريخ، يحتاج طريق الحرير إلى حماية طرق التجارة البرية والبحرية، ستحتاج الحكومة الصينية الآن للاتفاقيات والعلاقات الدبلوماسية الجيدة، وفي بعض الدول التي يسيطر عليها النفوذ الأجنبي إلى نفوذ سياسي موازٍ. كل ذلك حتى عام 2049، تاريخ الانتهاء المفترض لإنجاز البنية التحتية للمشروع. وحينها، سيكون لكلّ حادث سياسيّ حديثٌ آخر، بناءً على مدى النفوذ الاقتصادي الذي ستكون بكين قد حصلت عليه.
ثامنًا: حق استخدام القوة العسكرية للاحتفاظ بتايوان
يؤكد قانون مناهضة الانفصال الذي وضع عام 2005، أن الحكومة الصينية تحتفظ بحق استخدام القوة العسكرية في حال إعلان تايوان الاستقلال الرسمي. وقد ورد في الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة الصينية في أيار/مايو 2015 بعنوان الاستراتيجية العسكرية للصين، عبارات لا تقبل التأويل، وتتعلق بقضية تايوان: "إعادة توحيد الصين هو اتجاه لا مفر منه ... قد تحافظ العلاقات عبر المضيق بين تايوان والصين على قوة دفع سليمة من التنمية السلمية، ولكن لم يتم بعد إزالة السبب الجذري لعدم الاستقرار، والقوى الانفصالية لاستقلال تايوان وأنشطتها لا تزال تمثل أكبر تهديد للتنمية السلمية وللعلاقات عمر المضيق". هذا الخطاب الذي يشدد أن الأصل هو سلمية العلاقات، لكنه لا يستبعد الخيار العسكري في حال قررت تايوان الاستقلال.
يتناوب على حكم تايوان اليوم حزبان اثنان، الأول قومي ويدعى حزب الكومينتانغ ولا يدعم الانفصال عن البرّ الرئيسي، والثاني هو الحزب التقدمي الديموقراطي الذي يسعى للانفصال عن البرّ الرئيسي برعاية الولايات المتحدة، التي لا تنفكّ تستفزّ الحكومة الصينية على الرغم من أنّ الانتخابات الأخيرة في الجزيرة، مكّنت الحزب الكومينتانغ الذي لا يريد الانفصال، إلا أنّ الولايات المتحدة مستمرة باستفزاز الصين من تايوان تحديدًا، وخاصة أنّ واشنطن ملتزمة بالقانون المحلي الأمريكي المعروف بـ"قانون العلاقات مع تايوان" الذي أقره الكونغرس عام 1979 والذي طبقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بطريقة متشددة، ومنذ ذلك الوقت، بدأ الإعلام يترقّب جديًا مواجهات عسكرية بين الولايات المتحدة والصين، خاصة بعد كل زيارة من قبل شخصيات رسمية من الفئة الأولى إلى تايوان.
كل هذه المعطيات شكلت حاجة الصين لحماية "مصالحها الجوهرية" من خلال النفوذ والقوة السياسية التي حان وقت تفعيلها في هذه اللحظة العالمية التي تهيئ لانهيار الأحادية القطبية. تحتاج هذه اللحظة إلى دور صيني يقوّض من الدور الأمريكي ويظهر عجزه، ويساهم في دقّ الأسافين في خواصره الرخوة، ولن يحصل ذلك إلا باستخدام الدبلوماسية السياسية، والتخلي عن الحياد السياسي للحفاظ على مسار السيطرة من خلال الاقتصاد. الواقع أن مصالح الصين الجوهرية بحسب التعريفات التي أتاحها الحزب الشيوعي الصيني وأعلى سلطات حكومية صينية، تبدو فضفاضة وفيها الكثير من البراغماتية والغموض في أماكن كثيرة تجعل من الصعب التنبؤ بالسلوك الدبلوماسي الصيني وبالخطوة التالية للحكومة الصينية، ويمنح بكين مرونة في التعامل مع القضايا العالمية والنزاعات. ويبقيها في موقف ملائم وجيّد بالنسبة للموقف الداخلي أمام شعبها المعتدّ بنفسه.
الانعطافة التاريخية للصين الجديدة
بعد عقد الاتفاقات الاستراتيجية، وزيارة الرئيس الصيني إلى المنطقة العربية وتوقيع مئات العقود الاستثمارية مع الدول العربية، تتنوع بين مشاريع استثمارية لصناعات استراتيجية وبنى تحتية، وفي فترة تاريخية تشهد تحولات عالمية وإقليمية في أكثر البقع التهابًا في العالم، تدخّلت الصين في مصالحة تاريخية لواحدة من أعقد العلاقات في غرب آسيا، وهي المصالحة بين السعودية وإيران، الحليفتان الاستراتيجيتان للصين، وأكبر دولتان مصدرتان للنفط والغاز بالنسبة لبكين. نجحت المصالحة حيث لم تنجح محاولات من قبل أطراف عربية قبلها دامت حوالي 5 سنوات، وهنا بدأ الرئيس الصيني يتحسّس قوته الدبلوماسية المدعومة بنفوذه الاقتصادي، للتدخّل في الحرب الروسية الأوكرانية. يعرف شي جين بينغ أن الثمار التي زرعها حزبه حول العالم، قد أينع قطافها.
كلمة الصين المسموعة
ربما لم تكن كلمة الصين مسموعة كما هي اليوم لدى دول القرار العالمي، عندما كانت هذه الدولة في بداية الصعود بعد الحرب العالمية الثانية، كان يتمّ التعامل معها على أنها الطرف المجتهد الذي يتقبّل التنمّر ويتحمّل الضغوطات وأحيانًا يتنازل، لقد كانت سياسة الصين "تمسكن حتى تتمكّن". فسياسة الصين بمداراة النظام العالمي ومحاولة التناغم معه، وتقبّل العقوبات الأمريكية، على الرغم من معرفتها أن الولايات المتحدة بحدّ ذاتها لا يمكنها الاستغناء عنها، وعدم التعامل معها بمنطق الانتقام، والاستعجال نحو الصعود إلى مرتبة القوة العظمى، كان ذلك لانشغالها باستراتيجية تحويل التنين الصيني إلى عملاق اقتصادي يسيطر على بنى تحتية أساسية لكثير من الدول النامية، مثل الموانئ والمطارات في آسيا وأفريقيا، والسيطرة على مناجم الذهب، وأسواق التجارة في أفريقيا، بالإضافة إلى الاعتماد الأوروبي التكنولوجي على الصين كأول مورّد تكنولوجي، والاستثمارات الصينية الهائلة والتي يتكئ عليها الآن الاقتصاد الأمريكي.
كل ذلك يمكّن الصين من التحكّم والتدخل في الدول التي تملك فيها أوراقًا اقتصادية رابحة، وهي الطريقة التي تحكّمت فيها الولايات المتحدة بالدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وتحوّل بموجبها النظام العالمي إلى أحادية الهيمنة الأمريكية. تملك الصين اليوم حول العالم نفوذًا اقتصاديًا أكثر مما كانت الولايات المتحدة تملكه في منتصف القرن الماضي. لقد شهدت الصين التجارب العالمية السياسية وراقبتها فيما يطلق عليه "الصبر الاستراتيجي"، ولديها الكثير مما تعلمته من أخطاء الآخرين في محاولاتهم للهيمنة. لقد أطّرت الصين دورها في العالم بطرق مختلفة بحسب تصنيفات دول العالم: قدمت نفسها من خلال الشخصية الكونفوشية لعقد الشراكات والفوز بالاستثمارات الأساسية في الدول النامية، واستخدمت رؤية ماو تسي تونغ التي ترى أن كلّ دول العالم الثالث يجب أن تقوم بثورة ضدّ المصالح الغربية للدول المناهضة للمعسكر الغربي. أما لدى الدول الغربية، فتقدّم الصين نفسها على أنها مزيج من البراغماتية الصينية، والليبرالية الغربية التي تفرضها هذه الدول. كما أن الصين واحدة من الدول الخمس التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن في الأمم المتحدة.
إلى ذلك، وكما في العام 2008، يتعثّر الاقتصاد لدى دول العالم كله ولا يتأثر الاقتصاد الصيني إلا قليلاً، وفي هذا الواقع، تستخدم الصين مزيجًا من الجاذبية والتواضع لضمان اقتصادات الدول التي تدخل إليها باستقبالٍ حارّ، وليس بغزو أو ثورة ملونة. فالدول، سواء العظمى أو الأصغر، تحترم الحزب الشيوعي الذي لا يفرض نفسه شرطيّ العالم كما فعل الاتحاد السوفياتي ثم انهار، وكما فعلت الولايات المتحدة فاستنزفت مواردها وطاقتها وقوتها في الانتشار العالمي.
لا تحتاج الصين اليوم لاستنزاف مواردها ولا إلى اقناع شعبها بشنّ الحروب على الدول الأخرى لفرض إرادتها. فالصين اليوم لديها ما يكفي من النفوذ الاقتصادي داخل الدول، يجعلها قادرة على التلويح به لخدمة مصالحها السياسية، وجعل أوكرانيا مثلًا تقبل السلام مع روسيا وإلا...، بل إن الصين، تحصل على عوائد مادية من الاستثمارات داخل الدول، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها مثل بريطانيا وفرنسا يحصلون عليها بالنهب والسرقة.
تتحرك الصين اليوم بين قطبين اثنين في سياستها الخارجية، إنها تضع الكونفوشية الصينية بيد، مدفوعة بالاستثنائية الصينية باليد الأخرى؟ وتصيغ بينهما أو بدمجهما سياستها الخارجية الجديدة للحفاظ على "مصالحها الجوهرية" التي ستمكنها كما يبدو -إذا نجحت- من الهيمنة على العالم.
الكاتب: زينب عقيل