الخميس 23 تشرين أول , 2025 12:12

حرب الطاقة بين روسيا وأوكرانيا: ترويض الشتاء لخدمة أهداف الحرب

discovery alert

تعيش الدولة الأوروبية على وقع فصل جديد من الحرب الروسية الأوكرانية، بعدما أعادت روسيا منذ أسابيع استهداف منشآت الطاقة الأوكرانية بشكل مركز. هذا الاستهداف الذي جعل من الهجوم أكثر فعالية مع اقتراب فصل الشتاء، وأصبحت فيه الطاقة ميداناً تختبر فيه موسكو قدرة كييف وحلفائها على الصمود أمام تحدٍّ تلعب فيه الطبيعة لصالح مَن يستطيع انقاذ أكبر قدر من أوراق قوته ومنشآت الطاقة فيه على اختلافها.

منذ عام 2022، كانت موسكو تستهدف محطات الكهرباء والتدفئة الأوكرانية بشكل متقطع، لكن الهجوم الأخير على محطة كييف المركزية مثّل نقطة تحول نوعية، إذ تضررت منشآت توليد ونقل وتخزين الغاز الطبيعي والمياه والكهرباء في وقت واحد، ما أدى إلى شلل جزئي في العاصمة الأوكرانية. توقفت حركة المترو لساعات، انقطعت المياه، وتحوّلت المولدات الصغيرة إلى وسيلة النجاة الوحيدة لملايين المدنيين. وفي خلفية المشهد، كانت كييف تعترف بأن ما يجري ليس مجرد تصعيد تكتيكي، بل تبدّل في فلسفة الحرب الروسية نفسها، من الضغط الميداني إلى إنهاك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

قد يعتبر هذا التصعيد ردّاً روسياً مزدوجاً: فمن جهة، هو انتقام مباشر من الهجمات الأوكرانية على منشآت تكرير النفط داخل الأراضي الروسية خلال الأشهر الماضية، والتي ألحقت خسائر ملموسة ببعض المصافي في المناطق الحدودية. ومن جهة أخرى، هو اختبار لمدى قدرة الغرب على تعويض أوكرانيا عن الدمار في منظومتها الطاقوية، بعدما أظهرت الأشهر الماضية تراجعاً نسبياً في الدعم المالي والعسكري الأوروبي نتيجة الأزمات الداخلية في ألمانيا وفرنسا وبولندا.

التكتيك الروسي الجديد يتميز بقدر عالٍ من الدقة التقنية والتطور التكنولوجي. فموسكو باتت تستخدم طائرات مسيّرة معدّلة وصواريخ ببرمجيات محدثة تتفادى أنظمة الدفاع الجوي الغربية مثل "باتريوت"، عبر تغيير المسارات وزوايا الهجوم. ووفق مراكز بحث غربية، تراجع معدل اعتراض الصواريخ الروسية من نحو 37% إلى 6% خلال شهر واحد فقط، ما يكشف عن فشل جزئي للأنظمة الغربية في التكيف مع نمط الحرب الروسية. هذا التطور حمل رسالة سياسية مفادها أن موسكو قادرة على إحداث شلل كامل في منظومة الطاقة الأوكرانية دون الحاجة إلى هجوم بري واسع.

في المقابل، تعيش أوكرانيا وضعاً مأساوياً داخلياً. البنية التحتية للطاقة في وضع يزداد سوءاً، والمولدات باتت سلعة ضرورية. عشرات المدن تستعد لشتاء قاسٍ في ظل انقطاع الكهرباء المتكرر، بينما تتزايد تقارير الفساد في عقود الدفاع والبنية التحتية، ما يضعف ثقة المواطنين بالحكومة.

أما الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فيبدون اليوم أمام معضلة مزدوجة. فمن ناحية، لا يريد الغرب أن تُترجم الهجمات الروسية إلى انهيار فعلي في الداخل الأوكراني قد يعيد رسم ميزان القوى الميداني. ومن ناحية ثانية، تخشى واشنطن من أن أي رد واسع على البنية التحتية الروسية قد يشعل أزمة طاقة عالمية ترفع أسعار النفط والغاز، خاصة مع استمرار توتر الإمدادات في الشرق الأوسط وتصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.

في الواقع، يمكن القول أن حدود "حرب الطاقة الراهنة" هذه تجري ضمن حدود محسوبة بعناية. موسكو من جهتها، تضرب العمق الأوكراني لتقويض القدرة الصناعية، لكنها تتجنب في الغالب استهداف منشآت النفط والغاز التي قد تمس السوق العالمي مباشرة. في المقابل، تكتفي كييف بشن هجمات محدودة على مصافي روسية قريبة من الحدود، دون توسع قد يثير ردّاً  مضاعفاً. هذه المعادلة تُبقي الصراع في منطقة رمادية حذرة، تستنزف الطرفين دون أن تفجر النظام الطاقوي الدولي.

من ناحية أخرى، لم تحقق العقوبات الأميركية المفروضة على قطاع الطاقة الروسي، منذ مطلع الحرب، أهدافها بالكامل. فبينما تمكنت واشنطن من تقليص الصادرات الروسية إلى الدول الأوروبية، عوّضت موسكو خسائرها عبر التوجه إلى أسواق آسيا، خصوصاً الصين، اللتين تشتريان النفط الروسي بأسعار منخفضة. هذا ما جعل تأثير العقوبات محدوداً، وأظهر أن الاقتصاد الروسي استطاع التكيّف مع الحصار المالي تقريباً عبر شبكة بديلة من التسويات باليوان والروبل. لذلك، لم تُضعف العقوبات قدرات روسيا على تمويل حربها، بل دفعتها إلى تطوير أدوات جديدة للالتفاف على المنظومة الغربية، كما يحصل عادة في أوساط الدول التي سبقت موسكو إلى حقل العقوبات كإيران والتي استطاعت أيضاً العثور على بدائل وحلول.

تتجاوز حرب الطاقة الحدود الأوكرانية لتتحول إلى معركة اقتصادية بين روسيا والغرب. فهي ليست فقط حول إمدادات الكهرباء في كييف أو مصافي النفط في كورسك، بل حول مَن يمتلك القدرة على ضبط السوق العالمية للطاقة. الدول الأوروبية التي كانت تعتمد على الغاز الروسي لعقود، تدفع اليوم ثمن فك الارتباط القسري، عبر ارتفاع الفاتورة الطاقوية وتزايد تبعيتها للغاز الأميركي المسال. أما الولايات المتحدة، فتسعى إلى استثمار هذه الأزمة لتعزيز موقعها كمصدر رئيسي للطاقة لهذه الدول، حتى وإن جاء ذلك على حساب الاستقرار العالمي للأسعار.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور