في السنوات الأخيرة، تحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة مواجهة متقطّعة بين المقاومة والكيان الإسرائيلي، تتبدّل فيها آليات وقف إطلاق النار بين قرارات أممية ووساطات دولية. ويُعدّ القرار 1701 الصادر عام 2006 المرجع الأساسي الذي نظّم الانسحاب الإسرائيلي ونشر الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل"، محدداً إطاراً قانونياً لضبط الحدود ومنع تزويد الجماعات المسلحة بالأسلحة دون موافقة الدولة اللبنانية. ومع تجدّد الاشتباكات في الأعوام 2023–2024، أُعلن عن اتفاق هدنة جديد في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024، برعاية الولايات المتحدة ومشاركة فرنسا والأمم المتحدة ضمن آلية ثلاثية لمراقبة التنفيذ.
في هذا السياق، برز الدور الفرنسي كفاعل دبلوماسي تقليدي في الملف اللبناني، إذ تمتلك باريس روابط تاريخية وسياسية وثقافية مع لبنان، فضلاً عن عضويتها الدائمة في مجلس الأمن ومشاركتها الفعلية في بعثة "اليونيفيل". غير أن هذا الدور لم يعد يحظى بالثقة نفسها التي رافقته لعقود، بعدما تحوّل تدريجياً من موقع الوسيط المتوازن إلى طرفٍ سياسي متأثر بالموقفين الأميركي والإسرائيلي، ما أفقد فرنسا الكثير من مصداقيتها في نظر الرأي العام اللبناني والعربي.
تتحمّل فرنسا، من منظور سياسي وقانوني، شكلاً من أشكال المسؤولية الدولية عن آلية وقف إطلاق النار، نظراً إلى نفوذها في مجلس الأمن ومشاركتها المباشرة في آليات المراقبة. فهي تمتلك قوة رمزية ودبلوماسية تسمح لها بالضغط على الأطراف المتحاربة للالتزام ببنود الاتفاق، الأمر الذي يجعلها مسؤولة سياسياً عن أي تقاعس في هذا الجانب. كما أن وجودها ضمن آلية المراقبة الثلاثية ينقلها من موقع "الوسيط الخارجي" إلى "الشريك في التنفيذ"، ما يفرض عليها واجب الإبلاغ عن الانتهاكات والعمل لردعها بوسائل دبلوماسية. لكن هذا لا يمنحها صلاحيات عسكرية أو قسرية، إذ يظل تنفيذ القرارات رهناً بإرادة الأطراف الميدانية وبالغطاء الأممي.
رغم ذلك، فشلت فرنسا في الحفاظ على حيادها التاريخي، إذ بدا موقفها خلال الحرب الأخيرة أقرب إلى خطاب واشنطن وتل أبيب، مركّزاً على "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، ومتجاهلاً حجم الانتهاكات التي طالت المدنيين والبنية التحتية في لبنان. هذا التواطؤ الصامت أضعف صورة فرنسا كمدافع عن القيم الإنسانية، وجعلها جزءاً من منظومة ازدواجية المعايير التي تبرّر العدوان وتدين المقاومة. ومع أن باريس دعت مراراً إلى "ضبط النفس" و"التهدئة"، إلا أنها تجنّبت توجيه انتقادات واضحة للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ما جعلها تفقد وزنها الأخلاقي والسياسي كوسيط موثوق.
التحول في السياسة الفرنسية لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج تراكم ضغوط واستحقاقات. فمن جهة، تسعى باريس للحفاظ على علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع تل أبيب، ومن جهة أخرى تخضع لهيمنة الموقف الأميركي داخل مجلس الأمن. كما أن الأزمة الأوكرانية عمّقت تبعيتها للاستراتيجية الأطلسية، ما جعل قرارها الدبلوماسي أقل استقلالية في ملفات الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، تراجعت قدرتها على المناورة، وباتت تتعامل مع لبنان من منظور أمني ضيّق يركّز على "احتواء حزب الله" بدلاً من دعم مؤسسات الدولة وتعزيز سيادتها.
قانونياً، لا تتحمّل فرنسا مسؤولية مباشرة عن الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل أو أي طرف آخر، لكنها تتحمّل مسؤولية سياسية وأخلاقية نتيجة تقاعسها عن أداء واجبها في مراقبة تنفيذ القرار 1701 بحيادٍ تام. فالمشاركة في آلية المراقبة تفرض عليها الالتزام بالإبلاغ عن الخروقات والعمل لمنعها، وليس التغطية عليها أو تجاهلها. ويمكن القول إن امتناع باريس عن اتخاذ مواقف حازمة ضد الانتهاكات الإسرائيلية يُعدّ إخلالاً بواجب حسن النية الذي يُفترض أن يحكم سلوك الدول الأعضاء في مجلس الأمن.
أما على صعيد القانون الدولي الإنساني، فإن مشاركة فرنسا في آلية المراقبة لا تجعلها شريكة جنائياً في الانتهاكات، إلا في حال ثبوت تورّط مباشر. لكنّ عليها واجباً أخلاقياً في دعم التحقيقات المستقلة حول الجرائم المحتملة وحماية المدنيين. تجاهل هذا الواجب يعرّضها لفقدان ما تبقّى من رصيدها الأخلاقي والديبلوماسي في المنطقة.
في المحصلة، فشلت فرنسا في الحفاظ على موقعها التاريخي كوسيط نزيه في النزاع اللبناني–الإسرائيلي. فقد أدّى غياب موقف حازم ضد الاعتداءات الإسرائيلية إلى تآكل مصداقيتها، كما أن انحيازها إلى الخطاب الأميركي–الإسرائيلي وضعها في مواجهة الرأي العام اللبناني والعربي، وأضعف قدرتها المستقبلية على التأثير في ملفات الشرق الأوسط. ورغم أن مسؤوليتها القانونية محدودة، إلا أن مسؤوليتها السياسية والدبلوماسية واضحة بحكم مشاركتها في صياغة وتنفيذ آليات وقف إطلاق النار. استمرار هذا النهج سيقود إلى تراجع نفوذها في المنطقة، لصالح قوى دولية أخرى أكثر توازناً وقدرة على الجمع بين المصلحة السياسية والمبدأ القانوني في مقاربة أزمات الشرق الأوسط.
الكاتب: غرفة التحرير