الخميس 09 تشرين أول , 2025 12:27

الغضب المركّب.. التطبيع كشرارة خفية في احتجاجات المغرب

الاحتجاجات في المغرب

يشهد المغرب منذ أواخر أيلول/ سبتمبر 2025 موجة احتجاجات شبابية غير مسبوقة، تحوّلت سريعًا إلى ظاهرة اجتماعية واسعة أُطلق عليها اسم "احتجاجات الجيل زد" أو "GenZ 212". في بدايتها، كانت المطالب بسيطة ومباشرة: تحسين الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم، ومحاربة الفساد، والحدّ من التفاوت الاجتماعي. غير أنّ جذورها أعمق من ذلك بكثير، فهي تعبّر عن تراكم طويل من الغضب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وعن شعور جماعي بالاختناق وغياب العدالة في توزيع الثروة والفرص.

خرج آلاف الشبان في مدن عدة مثل الرباط والدار البيضاء وأغادير ووجدة وتزنيت، مدفوعين بإحساس بالحرمان وبالهوة المتسعة بين طموحاتهم وواقعهم اليومي. وقد تحوّلت بعض هذه التجمعات إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، أفضت إلى اعتقالات وإصابات ووفيات، وسط تضارب الأرقام الرسمية وغير الرسمية حول حجمها. اللافت أنّ الحركة بدت لامركزية بالكامل، منظَّمة عبر شبكات رقمية مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"ديسكورد"، دون قيادة سياسية واضحة أو انتماء حزبي، وهو ما منحها زخمًا سريع الانتشار، لكنه في الوقت نفسه جعلها بلا أفق تفاوضي محدد.

خلف هذا الغضب المباشر تختبئ أزمات بنيوية متراكمة: نسب بطالة مرتفعة، وركود اقتصادي مزمن، وفوارق مجالية بين الشمال والجنوب والريف والمدن الكبرى، وتراجع حاد في الثقة بالمؤسسات الوسيطة كالبرلمان والأحزاب والنقابات. الشباب المغربي الذي نشأ في عالم رقمي مفتوح أصبح أكثر وعيًا بمحدودية الفرص وأكثر حساسية تجاه مظاهر الفساد واللامساواة، فباتت وسائل التواصل الاجتماعي منصته البديلة للتعبير والتنظيم والتوثيق.

في جوهر هذه الحركة يتقاطع البعد الاجتماعي مع بُعد وطني أعمق. فالمغاربة لا يحتجون فقط على الأوضاع المعيشية، بل على ما يعتبرونه "اختلالًا في السيادة الوطنية". ومن أبرز ملامح هذا الإحساس المتنامي، تصاعد الحضور الإسرائيلي في البلاد منذ توقيع اتفاق التطبيع عام 2020. فقد تعززت العلاقات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وتوسعت الاستثمارات المشتركة، ودخلت الشركات الإسرائيلية إلى مجالات حساسة في الاقتصاد المغربي، ما أثار قلقًا واسعًا من حجم التأثير الخارجي على القرار الوطني.

يضاف إلى ذلك ما أُثير من قضايا "استرجاع الأملاك اليهودية" وتعويضات لمهاجرين إسرائيليين، والتي أدت في بعض الحالات إلى طرد عائلات مغربية من منازلها، فاعتبرها الشارع تعديًا على الكرامة الوطنية ورضوخًا لضغوط أجنبية. هذه الوقائع، التي انتشرت عبر الإعلام البديل، أعادت إلى الأذهان صورة التطبيع كخطر داخلي يهدد السيادة، لا مجرد سياسة خارجية تخصّ الدولة. وهكذا تزاوج الغضب الاجتماعي مع شعور جماعي بفقدان الكرامة الوطنية، ما جعل شعار "استعادة السيادة" جزءًا من روح الاحتجاجات.

التطبيع الذي برّرته الحكومة بالمصالح الاستراتيجية وملف الصحراء لم ينجح في إقناع الرأي العام، إذ ظلّ يُنظر إليه كتنازل عن أحد الثوابت الوطنية. ومع كل عدوان على غزة، كان الشارع المغربي يعبّر عن رفضه للتطبيع بمسيرات ضخمة، بلغت ذروتها بعد بدء الإبادة في غزة عام 2023. لقد غذّت صور القصف والمعاناة الفلسطينية الوعي الجمعي للشباب المغربي، وربطت بين نضاله الاجتماعي اليومي وبين معركة أوسع ضد الظلم والهيمنة.

من هنا، فإنّ الاحتجاجات الأخيرة ليست بمعزل عن القضية الفلسطينية، حتى وإن لم تُرفع شعاراتها صراحة. فالمطالب المتعلقة بالكرامة والعدالة والسيادة تتقاطع كلها في خيطٍ ناظم واحد: استعادة القرار الوطني من قبضة الخارج والفساد الداخلي. أصبح الوعي الفلسطيني عاملًا موحِّدًا بين تيارات فكرية متباينة: إسلامية ويسارية وقومية ومستقلة، فوسّع قاعدة الغضب وأضفى عليه بعدًا أخلاقيًا عابرًا للسياسات اليومية.

ردّ السلطات جاء خليطًا من الاعتراف بحق التظاهر وفرض القبضة الأمنية. فبينما حاولت الحكومة التقليل من شأن التحركات بوصفها "مؤقتة" أو "موجَّهة"، تكشف الوقائع أن ما يجري أعمق من مجرد احتجاجات عابرة. فالمجتمع المغربي يعيش اليوم لحظة إعادة تعريف لعلاقته بالسلطة وبالهوية الوطنية وبمفهوم السيادة نفسه. وإذا استمرّ التجاهل الرسمي للمطالب، فقد تتطور هذه الحركة إلى موجة اجتماعية أوسع، تمتد إلى قطاعات مهنية ومناطقية أخرى.

إنّ "الغضب المركّب" الذي يهزّ المغرب اليوم ليس فقط نتيجة اختلالات اقتصادية، بل هو خلاصة تراكمات اجتماعية وثقافية وسياسية تتقاطع فيها خيبة الأمل الداخلية مع الإحساس بالمهانة الخارجية. إنّه تعبير عن جيلٍ وُلد في زمن الرقمنة والانكشاف الإعلامي، يرفض الوعود المؤجلة ويطالب بدولة تحترم كرامته وتعبّر عن إرادته. بين مطلب الخبز ومطلب السيادة، تتشكل ملامح وعيٍ جديد في المغرب يربط بين العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وبين الوطن والموقف من فلسطين. هكذا يصبح الغضب الشعبي الراهن انعكاسًا لتحوّل عميق في الوعي الجمعي المغربي، وجرس إنذار لدولةٍ لم تعد قادرة على إدارة التناقض بين صورتها "الحديثة" وواقعها المتأزم.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور