السبت 06 أيلول , 2025 12:35

شلل الأطفال في غزة: وباء يصنعه الحصار

الأطفال في قطاع غزة يعانون من متلازمة الشلل الرخو

في غزة، حيث يشكّل الأطفال ما يقارب نصف عدد السكان، تتجسد الكارثة الصحية بأبشع صورها. أكثر من مليون طفل يعيشون بلا جرع اللقاحات المنتظمة منذ بدء الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعدما توقفت حملات التحصين نتيجة الحصار والانهيار الكامل للبنية الصحية. منظمة الصحة العالمية واليونيسف حذرتا مراراً من أنّ غياب اللقاحات الأساسية، خصوصاً ضد شلل الأطفال، يفتح الباب واسعاً أمام تفشّي الشلل الرخو الحاد الذي يترك الأطفال عاجزين عن الحركة مدى الحياة. منذ أشهر يعيش أطفال غزة كابوساً مستمراً؛ قصف متواصل ينهش بيوتهم، وجوع يحاصر بطونهم، بالإضافة إلى هذا المرض الجديد حيث سُجلت معظم إصاباته حتى الآن بين الفئة العمرية التي تقل عن 5 سنوات. ويُعد الشلل الرخو بحسب الأطباء "أمراً غريباً ونادراً"، حيث تظهر حالة أو حالتان منه سنوياً فقط. إلا أن الحرب المتواصلة على غزة جعلته ينتشر بكثافة.

الشلل الرخو حرب قاسية

الشلل الرخو ليس مرضاً جديداً، لكنه اليوم يظهر في غزة بعدما صارت البيئة مثالية لتفشيه من سوء التغذية الحاد، إلى المياه الملوثة، وتدمير الاحتلال لشبكات الصرف الصحي وما نتج عنها من تلوث، كذلك المستشفيات العاجزة عن استقبال المصابين. وأشارت تقارير طبية إلى أنّ حالات الإصابة بالشلل الرخو ارتفعت بشكل لافت خلال الأشهر الأخيرة، مع عجز القطاع الصحي عن توفير أبسط العلاجات أو أجهزة الدعم التنفسي للأطفال المصابين. هؤلاء الأطفال الذين يفترض أن يركضوا أو يلعبوا، يجدون أنفسهم عاجزين عن تحريك أطرافهم، وكأنّ الحرب لم تكتفِ بقتلهم تحت الركام بل قررت أن تلاحق أجسادهم الباقية.

منظمة الصحة العالمية وثّقت أنّ أكثر من 70% من مستشفيات غزة خارج الخدمة كلياً، والبقية تعمل بطاقة جزئية، فيما فُقدت معظم سلاسل التبريد الضرورية لحفظ اللقاحات. التقارير الأجنبية أشارت أيضاً إلى أنّ عشرات الأطفال الذين ظهرت عليهم أعراض الشلل لم يتمكنوا حتى من إجراء الفحوص المخبرية وتم الاكتفاء بتشخيصهم سريرياً، لأن الاحتلال يمنع دخول الكواشف الطبية والأجهزة اللازمة. بهذا، تتحول غزة إلى مدينة محاصرة، محرومة من أبسط الحقوق بسبب الإجراءات التعسفية التي يمارسها الاحتلال.

جريمة مركبة: من القصف إلى الحصار

لا يمكن فهم انتشار الشلل الرخو بعيداً عن السياسة المتبعة من الاحتلال. فـ "إسرائيل" تستخدم كل الطرق لتصفية الفلسطينيين، إلى جانب الحصار كأداة قتل بطيء. فحين يُحرم الأطفال من الغذاء واللقاحات والمياه النظيفة، تتحول أجسادهم الصغيرة إلى ساحة معركة أخرى. صحيفة "ذا غارديان" نقلت عن خبراء صحة قولهم إنّ الوضع الحالي يذكّر بمآسي تاريخية حين استُخدمت الصحة كسلاح حرب، كما في العراق بعد التسعينيات، حيث أدى الحصار إلى عودة أوبئة ظنّ العالم أنه قضى عليها. المشهد في غزة اليوم تكرار لذات الجريمة، لكن بصمت دولي أكثر فجاجة.

بموجب القانون الدولي الإنساني فإن الحصول على الرعاية الصحية في أوقات الحرب، خصوصاً للأطفال حق مدني مفروض. مع ذلك، تتجاهل "إسرائيل" هذه الالتزامات، فيما تتغاضى الولايات المتحدة وحلفاؤها عن هذه الانتهاكات المتكررة. فكما عطّلت واشنطن جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الإبادة، ها هي اليوم تلتزم الصمت حيال موت الأطفال الفلسطينيين ببطء نتيجة الأمراض التي يمكن منعها بسهولة. المفارقة أنّ المجتمع الدولي تحرك لمواجهة وباء "كوفيد-19" عالمياً، لكنه يترك غزة لتواجه وحدها وباءً مزدوجاً.

وتكشف الأرقام عن حجم الكارثة حيث شهد القطاع أكثر من 63 ألف شهيد منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نصفهم تقريباً من الأطفال، أما مئات الآلاف ممن بقوا على قيد الحياة فهم يواجهون خطر الإعاقة الدائمة نتيجة الشلل الرخو وسوء التغذية. هؤلاء الأطفال، من عمر الشهر وحتى 10 سنوات، يعيشون دون الحصول على تعليم لائق، ولا أدوية حين مرضهم، ولا حتى مساحة آمنة للعب مثل أقرانهم. وفي ظل غياب المساءلة الدولية، تتحول معاناتهم إلى مشهد مألوف يتكرر كل يوم.

ما يحدث اليوم في غزة جزء من سياسة متكاملة تهدف إلى تدمير المجتمع الفلسطيني من أساسه. وهذا ما يريده الاحتلال أن يقضي على الأجيال التي يستشعر خطرها منذ الآن. وما يحصل في غزة هو جريمة ضد الإنسانية حيث يكتفي العالم بالوقوف متفرجاً على إبادة الطفولة الفلسطينية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور