الثلاثاء 08 تموز , 2025 03:36

المقاومة كهوية: أربع مراحل ومسار مرن لا ينكسر

صور من تحرير عام 2000 وحرب تموز وأولي البأس

تُعد تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان من أبرز النماذج المعاصرة التي يمكن من خلالها دراسة تطور حركات المقاومة في بيئة إقليمية معقدة. فهذه التجربة، التي انطلقت في ظل الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، لم تتوقف عند حدود الفعل العسكري التقليدي، بل تجاوزته لتؤسس عقيدة مقاومة متعددة الأبعاد تجمع بين الكفاح المسلح، والنشاط السياسي، والعمل الاجتماعي، والتكامل الأمني واللوجستي فضلاً عن قدرتها على التفاعل مع البيئة الإقليمية والدولية.

لقد عكست هذه المقاومة في بنيتها وسلوكها فهمًا متقدمًا لتحولات البيئة الجيوسياسية، وطوّرت نفسها بما يتناسب مع تغيّر طبيعة التهديدات، من الاحتلال المباشر إلى الحروب غير المتكافئة، ومن المواجهة الشاملة إلى حرب الردع وإدارة التوازن، وعليه فإنها لم تكتفِ بردّ الفعل بل امتلكت زمام المبادرة ضمن منظومة استراتيجية تراكمية من أربع مراحل رئيسية: التحرير، الردع، الصمود، والجاهزية.

من هذا المنطلق تأتي أهمية الإضاءة على هذه التجربة، وتقدّم إطارًا نظريًا وميدانيًا يمكن اعتماده في فهم نشوء المقاومة، وتطورها، وشروط نجاحها أو إخفاقها.

وبهذا لا تُقدَّم المقاومة هنا كحركة مقاومة عسكرية وحسب بل كظاهرة سياسية واجتماعية واستراتيجية متكاملة قادرة على التكيف، والتطوير، والاستمرار، في وجه الجيش الصهيوني الذي يُعدّ أحد أكثر الجيوش تطورًا في العالم.

أولاً: تعريف متجدد للمقاومة

المقاومة وفقًا لهذا التعريف ليست خيارًا ظرفيًا أو ردّ فعل لحظيّ  بل تُعدّ ضرورة دفاعية وجودية تتصل بشكل مباشر بجوهر الهوية، وكرامة الجماعة، وسيادة الأرض والإرادة بل إنها تتجاوز الفعل العسكري التقليدي لتشكّل بُنية نفسية واجتماعية وسياسية متكاملة، تعبّر عن رفض جذري للاحتلال كما تُجسّد إرادة عدم الاستسلام للهيمنة، حتى في ظلّ اختلال واضح في موازين القوى، وبهذا المعنى تتحوّل المقاومة إلى وسيلة استراتيجية لحفظ الكرامة الجماعية، وصون الهوية، عبر الاستمرار والصمود، حتى في أحلك الظروف، ودون انتظار نصر سريع أو نهائي، بل من خلال تراكُم القدرة على المواجهة والبقاء.

ثانيًا: الحالات الأربع للمقاومة

1 - تحرر وتنتصر: التحرير الكامل

الحالة الأولى من حالات نشوء المقاومة تُعرف بـ"تحرر وتنتصر" بحسب خطاب الأمين العام، الشيخ نعيم قاسم، وتشير إلى مرحلة التحرير الكامل التي تجسدت بوضوح في تجربة المقاومة الإسلامية خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني (1982–2000). تميزت هذه المرحلة بوجود احتلال عسكري مباشر، قابله دعم إقليمي فعّال، خاصة من الجمهورية الإسلامية في إيران، والجمهورية العربية السورية، واحتضان شعبي واسع من البيئة الاجتماعية، كانت المهمة المركزية في هذه المرحلة هي تحرير الأرض من خلال اعتماد تكتيكات حرب العصابات والعمليات النوعية التي أرهقت العدو وأفقدته القدرة على الاستمرار مع التزام المقاومة بمجموعة من الضوابط  مثل الحفاظ على التأييد الشعبي، وتجنّب الانزلاق إلى مواجهات غير محسوبة، والتنسيق اللوجستي مع الحلفاء الإقليميين، أسهم في استمرارية الفعل المقاوم، وقد مهدت هذه المرحلة لمرحلة الردع خاصة في الفترة الزمنية الممتدة من  نيسان 1996 الى تموز 2006  إذ راكمت المقاومة خبرة وقدرة، وأثبتت جدوى العمل المنظّم على المدى الطويل الى أن ظهر النموذج الأبرز لتطبيق هذه الحالة مع تحرير الجنوب اللبناني في أيار 2000 الذي تحقق من دون مفاوضات أو تنازلات ما شكّل سابقة في الصراع العربي–الإسرائيلي وأعاد الاعتبار لفكرة المقاومة كوسيلة تحرير فعّالة.

2 - تقاتل وتردع: فرض توازن الرعب (حرب تموز 2006)

نموذج التطبيق: حرب تموز 2006 وسّعت معادلة الردع المتبادل لأول مرة عبر قصف العمق المحتل واستهداف مدن رئيسية داخل الكيان كحيفا ومدن اساسية في الشمال.  

الحالة الثانية من حالات المقاومة تُجسّد مرحلة "تقاتل وتردع"، وهي المرحلة التي أعقبت التحرير الى عام 2006، حيث بقيت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الاحتلال الإسرائيلي، واستمر التهديد العسكري من قبل العدو، رغم انسحابه من غالبية الأراضي اللبنانية، وفي هذا السياق تحوّلت المقاومة من مشروع تحرير ميداني إلى مشروع ردع استراتيجي، هدفه منع العدو من شنّ اعتداءات جديدة عبر بناء قدرة صاروخية واستخبارية متطورة قادرة على إيلام الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وقد ركزت المقاومة خلال هذه المرحلة على اعتماد الضوابط الصارمة، خصوصاً سرية التحصينات وانتشار السلاح، وتوازن الردع الذي يمنع التصعيد إلى حرب شاملة ما لم يبادر العدو بها، وعلاقة هذه المرحلة بالمراحل السابقة واللاحقة تكمن في أنها تشكل جسر حماية لمكتسبات التحرير، وتوفّر قاعدة انطلاق لأي مرحلة مقاومة جديدة، وقد تُوّجت هذه المرحلة بنموذج تطبيقي بالغ الأهمية تمثل في حرب تموز 2006، حيث استطاعت المقاومة، فرض معادلة ردع متبادل، ألزمت العدو بالحساب المسبق لأي مغامرة عسكرية مستقبلية تجاه لبنان.

3 - تصمد وتمنع: الصمود أمام العدوان (معركة أولي البأس)

الحالة الثالثة من حالات نشوء المقاومة في النموذج اللبناني تتمثل في "تصمد وتمنع"، وهي المرحلة التي تُفعَّل عند تعرض المقاومة لعدوان شامل أو هجوم واسع النطاق، كما حدث خلال معركة أولي البأس في هذه المرحلة، لا يكون الهدف تحقيق نصر عسكري تقليدي بل تعطيل أهداف العدو الاستراتيجية ومنعه من تحقيق مكاسب ميدانية أو سياسية حاسمة.

تتطلب هذه الحالة استعدادًا عالياً للصمود طويل الأمد مع الحفاظ على الحد الأدنى من القوة الفاعلة، وتكثيف أدوات الحرب النفسية لإرباك الخصم وتعزيز الروح المعنوية للجمهور الداخلي، وتتمثل الضوابط الأساسية في تدرج الدفاع، والقدرة على امتصاص الضربات، والاستمرار في بث رسائل القوة رغم القصف أو الحصار، والعلاقة بين هذه المرحلة والمراحل الأخرى تظهر في كون الصمود يمثل جسرًا ضروريًا لإعادة بناء القدرات، واستئناف الردع أو الانتقال نحو التحرير مجددًا، وقد برز النموذج التطبيقي لهذا النمط من المقاومة بوضوح حين نجحت في الاستمرار بالمواجهة العسكرية رغم القصف الجوي والدمار، ومنعت العدو الإسرائيلي من تحقيق أهدافه سواء في احتلال مناطق جديدة أو القضاء على بنية المقاومة.

4 - تصبر وتبقى جاهزة: البناء في زمن تحدي الضغوط السياسية والدولية.

تمثل الحالة الرابعة "تصبر وتبقى جاهزة" المرحلة التي تلي المواجهات المباشرة، وتُفعَّل في سياق هدوء نسبي يرافقه ضغط سياسي داخلي وخارجي لنزع سلاح المقاومة، كما شهد لبنان في أعقاب معركة أولي البأس، وفي هذه المرحلة قد لا يكون الهدف تنفيذ عمليات عسكرية بل تحصين البيئة الحاضنة للمقاومة وتعزيز الجهوزية، وتُمارس المقاومة هنا دورًا مزدوجًا: أولًا، عبر استمرار التحضيرات العسكرية بشكل سري ومنظم (تطوير القدرات الصاروخية، بناء أنفاق، تحديث شبكات الاتصالات)، وثانيًا، عبر التحول إلى فاعل مجتمعي يقدم الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، مما يعزز شرعيتها الشعبية ويؤمن الغطاء المدني لاستمرارها تُعد هذه المرحلة ضرورية لحفظ معادلة الردع وترميمها، وتوفير بنية تحتية قادرة على امتصاص الضربات في أي مواجهة قادمة، ويتجلى النموذج لهذه الحالة في الجهود التي بذلها حزب الله بعد الحرب لتعزيز قدراته الأمنية والاجتماعية، ما جعله أكثر استعدادًا واستدامة في بيئة تتسم بالاضطراب السياسي والأمني.

ثالثًا: العلاقة التراكمية بين الحالات الأربع

تشير التجربة إلى أن المقاومة الناجحة لا تعمل وفق منحنى تصاعدي ثابت، بل تُطوّر أدواتها من خلال التحوّل بين الحالات الأربع:

التحرير – الردع – الصمود - الجاهزية، وهي حلقة تُعيد إنتاج ذاتها بمرونة استثنائية عبر التفاعل الدائم بين المقاومة كجهة فاعلة والمجتمع الحاضن لها الذي يتفاعل بشكل دائم مع المقاومة ويشكل رافعة دعم متواصل للمقاومة مما يعزز قوة إرادة القتال الدائم.

كل حالة تتطلب تكتيكًا مختلفًا، لكنها تتغذى من "الرؤية الكلية" التي ترى في المقاومة وسيلة لحماية الأرض والكرامة، لا مجرد أداة قتال.

رابعًا: الاعتبارات الاستراتيجية الحاكمة للمقاومة

- شرعية المقاومة: تحظى المقاومة بشرعية أخلاقية وقانونية من قاعدة شعبية واسعة في المجتمع اللبناني.

- المرونة العملياتية: الانتقال السلس بين العمليات التقليدية وغير التقليدية.

- تكامل الأبعاد العسكرية والاجتماعية: حيث تدير المقاومة الوضع الاجتماعي لبيئتها وجمهورها بأفضل طريقة وتعزز قدرته على الصمود.

- الانضباط الاستراتيجي: رغم الاستفزازات (اغتيالات – مهاجمة العمق) لم تُسحب المقاومة إلى مواجهة مفتوحة غير محسوبة.





روزنامة المحور