تتناول هذه الورقة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في عدوان الكيان المؤقت على إيران، والتي شهدت تحوّلاً جذريًا في طبيعة الردع الإقليمي وتوازن القوى في غرب آسيا. ومع اختتام الجولة العسكرية المباشرة، يتجه الصراع نحو ترسيم قواعد اشتباك جديدة على امتداد الإقليم، في ظل توسّع النفوذ الإيراني وتعاظم صورته الاستراتيجية. غير أن هذه المرحلة لا تخلو من المخاطر، وفي مقدّمتها الحرب الأمنية، التي يلجأ إليها العدو كأداة تعويضية بعد فشل تحقيق أهدافه بالنار والحديد. كما تعالج الورقة بشكل ثانوي ملف الجنوب اللبناني، حيث لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يحتفظ بخمس نقاط حدودية بعد معركة أولي البأس 2024، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات استراتيجية.
أولًا: وقف إطلاق النار ليس نهاية الحرب بل انتقال إلى طورٍ جديد
في نظرية الحرب، لا يعني وقف إطلاق النار نهاية الصراع، بل غالبًا ما يشكّل نقطة تحوّل استراتيجية تنقل المواجهة من الطور العسكري المفتوح إلى طور أكثر تعقيدًا: طور إعادة التموضع الاستراتيجي والخداع العملياتي والتهيئة الأمنية لحروب جديدة.
وقف النار هنا لا يُقرأ كانتصار دبلوماسي، أي أنّ الجمهوريّة قد ألغت من حساباتها الحلول العسكريّة، بل:
- نقطة توازن مؤقت بفعل قوة الردع الإيرانية.
- لحظة ارتباك للعدو وإعادة ضبط خياراته تحت الضغط، وهذا يولّد خللًا في التّقدير تحت الضّغط.
- بيئة مناسبة لتفعيل الحرب الأمنية بصمت من قبل الإيراني، كما تفعل أجهزة العدو حاليًا.
ثانيًا: تثبيت قواعد اشتباك إقليمية جديدة – تحوّل في مفهوم الردع
النتيجة الأهم بعد المعركة هي أن إيران استطاعت، من خلال الضربات الباليستية والفرط صوتية الدقيقة، فرض منطق "الرد الاستراتيجي المباشر" على أي اعتداء صهيوني-أميركي.
قواعد الاشتباك الجديدة تشمل:
- حق إيران في الرد عبر العمق الجغرافي.
- تغيير وظيفة الحدود الدولية من عوائق إلى جبهات محتملة.
- الاعتراف غير المباشر بأن المنشآت النووية الإيرانية خارج نطاق التدمير الكلّي نتيجة عدم القدرة على تعطيلها وإلغائها لأسباب سياسية في المنطقة يأتي ذكرها لاحقاً في ورقة منفصلة.
- صعود معادلات جديدة: كل عدوان له تكلفة تُدفع داخل تل أبيب.
ثالثًا: مكاسب إيران بعد وقف إطلاق النار – صعود إقليمي متماسك
- توسيع النفوذ السياسي في الإقليم: إعادة رسم التوازنات في الخليج وبلاد الشام.
- تكريس قدرة الردع الباليستي كمظلة حماية إقليمية.
- فرض حضورها في ملفات حساسة: أمن الطاقة، المعابر، أمن الممرات البحرية.
- إعادة تثبيت محور المقاومة كحقيقة استراتيجية وليس كيانًا مشتّتًا.
رابعًا: تحييد جبهة لبنان ومصير النقاط الخمس المحتلة
بعد معركة (أولي البأس) تمكّن العدو من احتلال خمس نقاط حدودية جنوب لبنان، وتمّ ذلك بعد وقف إطلاق النار، وفي هذه المعركة وقف حزب الله لا على الحياد طبعاً، بل وقفة المتربص والرّاصد عن الانخراط الكامل نتيجة معطيات سياسية وعسكرية. ورغم أن الحرب الأخيرة لم تشهد تدخّله، إلا أن وقف إطلاق النار بين الجمهوريّة الإسلامية والكيان المؤقت يفرض على المعادلة اللبنانية معالجات دقيقة: هنا سأقدّم تحليلاً عسكريًا–سياسيًا استراتيجياً مختصرًا يجيب عن كيفية استخدام إيران لنفوذها الإقليمي للضغط من أجل استعادة النقاط الخمس المحتلة جنوب لبنان:
مشروعية الضغط الإيراني فيما بعد الحرب
بعد تثبيت وقف إطلاق النار، تكون إيران قد تحوّلت من مجرد لاعب إقليمي مؤثّر إلى قوة مركزية فاعلة في هندسة موازين الردع الإقليمي، وخاصة بعد:
- نجاحها في ضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ الدقيقة.
- تحييد التفوق الجوي الصهيوني.
- بناء شبكة توازنات إقليمية مع روسيا والصين ومحور المقاومة.
- فرض معادلة "الأمن الإسرائيلي مقابل الأمن الإقليمي".
بناءً على ذلك، يصبح الضغط على العدو للانسحاب من النقاط الخمس في لبنان امتدادًا طبيعيًا لمعادلة الردع الجديدة، لا شأنًا محليًا فقط.
آليات الضغط الإيراني الممكنة لاستعادة النقاط الخمس
- عبر التفاوض غير المباشر مع الأميركي:
- إيران تستطيع أن تربط أمن الممرات البحرية في الخليج وأمن القوات الأميركية في المنطقة بمسألة إنهاء الاحتلال في الجنوب اللبناني، تندرج كبند تكتيكي في المفاوضات الكبرى.
- قد تستخدم طاولة التفاوض النووي كورقة شاملة تُدرج فيها مسألة الالتزامات الإسرائيلية–الأميركية تجاه الحدود اللبنانية.
- الأميركي بدوره إذا أراد تثبيت "تهدئة طويلة الأمد"، سيفرض على إسرائيل تقديم تنازلات تكتيكية، ومنها النقاط الخمس.
-عبر الحلفاء والبيئة الإقليمية:
- يمكن لإيران تكليف الحلفاء في لبنان أو سوريا أو العراق بالضغط الشعبي أو السياسي أكثر بحكم تغير موازين القوى وردع العدوّ وتحجيمه كنتيجة لهذه الحرب، أو حتى العسكري غير المباشر لإبراز هذه النقاط كملف دولي نشط.
- سوريا مثلاً، قد تلوّح بإعادة القنوات الدبلوماسيّة الإيرانية أكثر وأعمق، ما يستدعي تغيير الخطاب الدّاخلي، وإعادة تموضع قواتها على الجبهة الجنوبية، ما يفتح حسابات جديدة أمام تل أبيب، وهذا يبقى في دائرة الإمكان، ولكن عندما يصبح التّوجه العام في المنطقة، تنجرف سوريّا في نفس القناة لتعديل موقفها الإقليمي مع الأكثر قوّةً في المنطقة.
-عبر تدويل الملف كخرق لقواعد وقف النار:
- إيران تمتلك حلفاء في مؤسسات دولية وإقليمية قد يُستثمرون لتحريك المسألة كخرق لاتفاقيات 1701 ووقف النار.
- خصوصًا أن الاحتلال العلني لنقاط جديدة لا يملك أي غطاء قانوني حتى في رواية العدو.
لماذا قد يرضخ العدو لهذا الضغط؟
- الكيان المؤقت اليوم لا يريد فتح جبهة جديدة في الشمال بعد الضربة الإيرانية الكبرى، وبسبب ترتيب أولويات وأهداف الحرب، وتهدئة الجبهة الدّاخليّة.
- الأميركي يضغط باتجاه "استقرار الحدود" لتحصين مصالحه في الخليج.
- استمرار احتلال النقاط الخمس يجعل الكيان المؤقت في وضع خرق دائم لمعادلات الردع، ما يُبقي جبهة الشمال مشتعلة على مستوى التهديد الاستراتيجي.
النّاتج في هذه النّقطة أنّه نعم، تستطيع إيران بحكم مكاسبها العسكرية والسياسية أن تجعل من انسحاب العدو من النقاط الخمس ورقة تفاوضية قابلة للنجاح، بشرط أن تُربط بشكل ذكي بمنظومة الأمن الإقليمي الشامل، وأن تُدار باحتراف دبلوماسي من قبل المحور، دون أن تُسلّم بالكامل إلى التفاوض، بل تُترك كاحتمال يجمع بين ضغط النار وضغط السياسة.
خامسًا: تحذير من المرحلة الرمادية – العمليات الأمنية والخداع الاستراتيجي
بعد وقف النار تبدأ أخطر المراحل: الحرب الأمنية، كما ذكر في ورقة سابقة ولا ضير في التّذكير بها لربط الأفكار.
العدو يعتمد في هذه المرحلة على:
- استراتيجية الخداع والتضليل الإعلامي والسياسي.
- استخدام شبكة عملاء نشطة داخل العمق الإيراني.
- تنفيذ عمليات اغتيال وتخريب بنية تحتية في الظل.
- ضرب الروح المعنوية للمجتمع عبر أدوات الحرب النفسية.
تسمى هذه المرحلة في العلوم الأمنية، بـ "مرحلة تحت العتبة "، وهي:
- ليست سلمًا ولا حربًا، بل صراعٌ استخباري دائم.
- يُدار دون إعلان، لكن نتائجه قد تكون وجودية.
- يتطلب من الدولة المستهدفة حالة تأهّب استخباري – تعبوي مستمرة.
خاتمة:
وقف إطلاق النار لا يعني نهاية الحرب، بل دخوله طورًا أشد تعقيدًا، حيث تتراجع الجبهات وتُفتح الأبواب الخلفية للصراع الأمني والسياسي والاستخباري. إيران خرجت من المعركة الأخيرة بثقلٍ إقليمي مضاعف، ورسّخت قواعد اشتباك جديدة بقوة الصواريخ والعقلانية الاستراتيجية، لكن الانتصار الحقيقي يبدأ عندما يُفشل النظام الأمني الإيراني مشروع الاختراق والفتنة الذي سيحاول العدو تسويقه عبر أدوات ناعمة وخبيثة.
أما في لبنان، فإن النقاط الخمس المحتلة تبقى وصمة احتلال، لن يُغلق ملفها إلا باستعادتها، سلماً أو تحت نار الردع.
الخطوات الّتي سيعمل عليها الإيراني في السّياق التكتيكي والأمني:
- رفع درجة اليقظة الاستخبارية في الداخل الإيراني.
- مراقبة كل مؤشرات الحرب الناعمة والرد عليها بوعي.
- فتح ملف النقاط الخمس المحتلة في الجنوب بشكل مستقل.
- إعادة ترميم وتثبيت جبهة الردع اللبنانية على أسس جديدة.
- متابعة تثبيت قواعد الاشتباك وتوسيع مكاسب محور المقاومة بعد وقف النار.
الكاتب: ش أحمد علاء الدين