منذ بدء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تحولت العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم إلى ساحة معركة غير مسبوقة. وفي نيسان/ أبريل 2025، ارتفعت حدة هذه الحرب، حيث فرضت واشنطن رسوماً إضافية بنسبة 145% على السلع الصينية، وردت بكين بزيادة الرسوم على السلع الأميركية إلى 125%. هذا التصعيد ليس مجرد حرب تجارية، بل هو صراع اقتصادي وجيوسياسي يطرح تساؤلات حول من هو المتضرر الحقيقي: الولايات المتحدة أم الصين؟
في مواجهة هذه الإجراءات التي اتخذتها واشنطن تدريجياً سابقاً، لم تكتفِ الصين بالرد بالرسوم الجمركية فقط، بل اتخذت عدة خطوات استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى التخفيف من الآثار السلبية على اقتصادها:
-تنويع أسواق التصدير: أدركت الصين أنه لا يمكنها الاعتماد على السوق الأميركي بمفرده. لذا، بدأت في توسيع شبكة علاقاتها التجارية مع أسواق جديدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. هذا التحرك يهدف إلى تعويض الخسائر الناتجة عن انخفاض صادراتها إلى الولايات المتحدة، ويعزز من قدرتها على تجاوز أي عقوبات مستقبلية.
-تعزيز الإنتاج المحلي والتكنولوجيا: عززت الصين استثماراتها في قطاعات الإنتاج المحلي، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والابتكار. هذه الخطوة تعكس سعي الصين لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية وتطوير صناعاتها المحلية، وهو ما يساهم في تعزيز قوتها الاقتصادية على المدى البعيد.
-استخدام المعادن النادرة كورقة ضغط: تعتبر المعادن النادرة أحد العناصر الحاسمة في صناعة الإلكترونيات الحديثة، حيث تشكل الصين أكبر مصدر لهذه المعادن. وهكذا، هددت الصين باستخدام هذه الورقة كورقة ضغط ضد الولايات المتحدة، وهو ما يثير القلق في قطاع الصناعات التقنية الأميركية.
-المسار القانوني: اتخذت الصين خطوة أخرى عبر رفع قضية أمام منظمة التجارة العالمية ضد الإجراءات الأميركية، معتبرةً أنها تمثل انتهاكاً واضحاً لقواعد التجارة العالمية. هذه الخطوة تبرز التزام الصين بالقنوات القانونية لحل النزاعات التجارية.
تعد هيكلية التبادل التجاري بين البلدين عاملاً حاسماً في فهم ديناميكيات هذه الحرب. فالصادرات الأميركية إلى الصين في عام 2024 بلغت حوالي 143.5 مليار دولار، وتشمل المنتجات الزراعية مثل فول الصويا، بالإضافة إلى النفط والغاز الطبيعي. أما الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة فبلغت 438.9 مليار دولار، وتشتمل على الإلكترونيات، بما في ذلك الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر. هذا التفاوت الكبير في حجم الصادرات يعكس عمق الاعتماد المتبادل بين الطرفين، ويضعف من قدرة أي طرف على تحمل الأضرار الناتجة عن تصعيد النزاع.
فيما يبدو أن كلا الطرفين يعاني من آثار هذه الحرب، فإن الولايات المتحدة قد تكون هي الأكثر تضرراً على المدى القريب. فالمستهلك الأميركي، الذي يعتمد على السلع الصينية بأسعار منخفضة، سيواجه زيادة في الأسعار نتيجة الرسوم الجمركية. الشركات الأميركية التي تعتمد على المواد الخام أو المكونات الصينية تجد نفسها أمام تحديات كبيرة، حيث قد تضطر إلى رفع الأسعار أو تقليص هوامش الأرباح.
من ناحية أخرى، بالرغم من أن الصين تعاني من خسائر في صادراتها إلى الولايات المتحدة، إلا أنها تتمتع بمرونة اقتصادية أكبر. الاقتصاد الصيني لا يعتمد بشكل كامل على السوق الأميركي، ولديه القدرة على تنويع الأسواق من خلال تعزيز العلاقات التجارية مع الدول الأخرى، مما يقلل من تأثير الحرب التجارية على استقرارها الاقتصادي.
لا تقتصر تداعيات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين على الاقتصاد فقط، بل تشمل أيضاً تأثيرات جيوسياسية عميقة. فالصين تسعى من خلال هذه الحرب إلى توجيه رسالة للعالم بأنها قادرة على تحدي الهيمنة الاقتصادية الأميركية، بينما تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على تفوقها في الاقتصاد العالمي. في هذا السياق، أصبحت الحرب التجارية ساحة للتنافس على الهيمنة العالمية، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز نفوذه من خلال أدوات اقتصادية وسياسية متنوعة.
الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة لم تعد مجرد نزاع حول الرسوم الجمركية؛ هي صراع اقتصادي وجيوسياسي سيحدد معالم الاقتصاد العالمي في المستقبل. على الرغم من أن الصين قد تكون في وضع أفضل للتحمل على المدى الطويل، فإن التأثيرات السلبية على المستهلكين والشركات الأميركية ستكون محسوسة بشكل كبير في المدى القريب. وعلى المدى البعيد، يظل الاستقرار الاقتصادي العالمي رهيناً بقدرة الصين والولايات المتحدة على التفاوض وإيجاد حلول دبلوماسية تحول دون تصعيد النزاع إلى حرب تجارية لن تبقى محدودة التأثير.