تجدد الطرح الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن والسعودية وحتى سوريا عقب طوفان الأقصى، واتخذ طريقه القانوني ضمن مؤسسات كيان الاحتلال الرسمية، بهدف التخلص مما يمثله سكان القطاع من ثقل سياسي لحركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية الجهادية التي تنادي بالمواجهة العسكرية ضدّ كيان الاحتلال، وقد كانت أفكار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن جعل غزة واحة خضراء بعد تجريفها وتصميمها من جديد ودعوته مصر والأردن لاستقبال النازحين، بمثابة دفعة عظيمة لطموح الصهاينة بالتخلص من أي حقوق سياسية يمثله تواجد شعب فلسطيني في تلك البقعة الجغرافية.
تهدف هذه الورقة المرفقة أدناه، للوقوف عند اعتبارات الموقف المصري من تهجير الفلسطينيين من غزة، فهل هو موقف مبدئي يتعلق بالصراع العربي ـ "الإسرائيلي" والحقوق الفلسطينية بأرض فلسطين التاريخية، أمّ أنّها مواقف تتصل بمصلحة الأنظمة التي تحكم قبضتها على شعوبها ويخاف أصحابها أنّ يفقدوا السلطة في بلدانهم نتيجة خيارات سياسية ارتضوا السير بها، وعمل الخارج على تكريسها.
سوف نستعرض الحيثيات التي تحكم على مصر قبول أو رفض تهجير الغزيين إليها، وهي حيثيات جلها لا يتصل مباشرة بالصراع القديم العربي الإسرائيلي حول احتلال أرض فلسطين، بل تتصل بالخوف من تبعات خطوة كهذه ديموغرافيًا وأمنيًا وسياسيًا على النظام المصري، ومن تحرك الشعب المصري أو أي قطاعات متبقية من الجيش ما تزال على عدائها الشديد لإسرائيل، وترفض القطع مع الإرث القومي لمصر وتاريخ نضالها ضدّ الصهيونية في سبيل فلسطين والأمة العربية، وتتصل أيضًا بالمغريات المالية والاقتصادية للسير بهكذا مشروع، وسوف يكون على النظام أنّ يفاضل ما بين المخاطرة برصيده الشعبي وخطر انتفاضة حقيقية وما بين السير بالمراهنة على المكاسب المالية والاقتصادية المعروضة من الولايات المتحدة والغرب، والتي سوف تكون مدخلًا إضافيًا لفرض الشروط الأمريكية والإسرائيلية عليه، لاسيما وأنّ المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين يدأبون باستمرار على إثارة قضية تسلح الجيش المصري المتضخم، والهدف من تنويع ترسانته وتحديثها، والحديث الإسرائيلي عن تضارب المصالح المستجد ما بين مصر و "إسرائيل"، وهل أنّ إغراء النظام المصري بتسديد ديونه سوف يسمح له بالمزيد من التسلح وتهديد أمن الكيان الإسرائيلي؟
خاتمة
يتعلق مخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة برؤية جيوسياسية "إسرائيلية" ـ أمريكية أوسع لخارطة الشرق الأوسط، تقوم على مبدأ حماية كيان الاحتلال من أعدائه الداخليين والخارجيين، ودمجه في محيطه العربي والإسلامي، وتشتد خطورة استهداف دول المنطقة لتشكيلها وفق هذه الرؤية، على حلفاء واشنطن وخصومها على السواء، حيث أنّ مصر بمعارضتها تهجير الفلسطينيين قسرًا عن قطاع غزة تخاطر بتعريض أمنها القومي للخطر من جهة، ورفع منسوب الحنق الإسرائيلي عليها وتكرار سيناريو سوريا. وطالما أنّ الفلسطينيين لم ينبذوا خيار المقاومة داخل فلسطين المحتلة ولم يقبلوا تسليم سلاحهم، فإنّ الحل العسكري المتمثل بتفريغ غزة من سكانها تمهيدًا لاجتياح بري كامل للقضاء على حماس وفصائل المقاومة هو خيار أمريكي من ضمن رؤية الرئيس ترامب بفرض السلام عبر القوة، والوجهة الأولى لتهجير الفلسطينيين هي سيناء.
ويتكهن المحللون عن مدى صلابة الموقف المصري المعلن، وجدية النظام في أن يضع نفسه مباشرة قبالة موقف الإدارة الأمريكية الذي يسعى لفرض استقبال الفلسطينيين في سيناء، لعلمه بالخيارات والأدوات العقابية الوفيرة بيد ترامب، بما فيها إثارة الفوضى في الشارع المصري ضدّ النظام وفرض العقوبات الاقتصادية وحجب المساعدات العسكرية وعرقلة برامج الاستدانة من البنك والصندوق الدوليين وصولًا إلى دعم وصول شخصيات مصرية أخرى إلى سدّة الحكم.
لذا قد يعتمد النظام المصري عند اشتداد الضغوط مقاربة أخرى تقوم على هندسة استقبال النازحين الفلسطينيين بعيدًا عن سردية التهجير القسري، وفق قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وعلى إقناع صناع القرار الصهاينة أنفسهم بأنّ تهجير الفلسطينيين ـ وفيهم المدربين والمتمرسين على القتال ـ إلى سيناء أمر غير صائب لأن ذلك سيشكل بؤرة تهديد أكبر ضد الكيان بمساحة واسعة غير خاضعة للسيطرة والرقابة الأمنية مع منافذ متعددة للتهريب، وعوضًا عن ذلك قد يلجأ النظام المصري إلى خطة بديلة فحواها إذابة الغزيين على كامل مساحة مصر، وحتى نضوج هذا التصور فإنّ النظام المصري يرغب في إبقاء الوضع الحالي كما هو عليه حتى نضوج تسوية مرضية، وفيها الضمانات العملية والموثوقة في سياق خطة انقاذ اقتصادية شاملة تقوم على تنفيذ "خطة مارشال" المقترحة لإعادة إعمار القطاع وتنشيط الاقتصاد المصري.
لتحميل الدراسة من هنا