الخميس 27 شباط , 2025 03:31

غزة بين إعادة الإعمار والتهجير: كيف تواجه مصر المخططات "الإسرائيلية"-الترامبية؟

السيسي وترامب في الخلفية وإعادة الاعمار

تشكل الأوضاع الراهنة في غزة والجهود المبذولة لإعادة إعمار القطاع، إلى جانب مسألة إدارة ما بعد الحرب، نقطة تحول حاسمة في تاريخ المنطقة. الأزمة الفلسطينية ليست مجرد صراع إقليمي محدود، بل هي انعكاس لسياسات الهيمنة والاستعمار الجديد، ومحاولات مستمرة لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية. في هذا السياق، تتبدى أهمية المبادرة المصرية العربية المتكاملة، والتي تسعى ليس فقط إلى إعادة إعمار غزة، بل إلى ترسيخ أسس الاستقلال الفلسطيني، بما يضمن السيادة الوطنية ويمنع أي محاولات لفرض حلول تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني.

لكن هذه المبادرة تواجه تحديات هائلة. من جهة، هناك الضغوط "الإسرائيلية" المتزايدة التي تهدف إلى إطالة أمد الصراع وتكريس واقع الاحتلال، ومن جهة أخرى، تظهر مواقف بعض القوى الدولية التي تسعى إلى إعادة ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. في ظل هذه التعقيدات، يصبح التساؤل ملحًا: كيف يمكن لمصر والدول العربية أن ترتب أوراقها لمواجهة هذه المخططات، وما هي الاستراتيجية الأمثل لضمان إعادة إعمار غزة مع الحفاظ على السيادة الفلسطينية؟

إعادة الإعمار بين السياسة والمقاومة: أبعاد المبادرة المصرية العربية

تعتمد الرؤية المصرية على ستة مبادئ أساسية، تشكل في مجموعها خارطة طريق شاملة للتعامل مع مرحلة ما بعد الحرب في غزة. أول هذه المبادئ هو إعداد خطة مصرية عربية متكاملة لإعادة الإعمار، سيتم الإعلان عنها خلال القمة العربية الطارئة في القاهرة يوم 4 مارس المقبل. هذه الخطة تعكس وعيًا عميقًا بأهمية العمل الجماعي العربي في مواجهة التحديات الإقليمية، وترسيخًا لمفهوم التضامن العربي الذي تعرض للعديد من التصدعات في العقود الأخيرة.

ثانيًا، يتركز الجهد المصري على إدخال أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية إلى غزة، لضمان استمرار الحياة في ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب. واللافت هنا أن 80% من المساعدات الإنسانية المقدمة لغزة تأتي من مصر، ما يعكس التزامًا مصريًا تاريخيًا بدعم الشعب الفلسطيني. لكن هذه الجهود الإنسانية لا يمكن فصلها عن السياق السياسي؛ إذ تمثل جزءًا من استراتيجية تهدف إلى تعزيز الصمود الفلسطيني ورفض أي حلول تمس بحقوق الفلسطينيين.

المبدأ الثالث يحدد هوية من سيحكم غزة بعد وقف إطلاق النار، حيث أكدت مصر أن الفلسطينيين وحدهم هم من سيحكمون القطاع عبر "لجنة الإسناد المجتمعي" خلال فترة انتقالية. هذه الخطوة تسعى إلى منع أي تدخل خارجي في شؤون غزة، وتؤكد على ضرورة الحفاظ على الاستقلال الوطني الفلسطيني.

أما المبدأ الرابع، فهو التأكيد على ضرورة انسحاب "إسرائيل" الكامل، مدنيًا وعسكريًا، من القطاع. هذا الانسحاب ليس مجرد شرط سياسي، بل هو مطلب أساسي لضمان حرية الفلسطينيين وتهيئة الظروف لتحقيق سلام عادل ودائم.

الخامس هو إنهاء الحرب ووقف العدوان "الإسرائيلي"، كخطوة أولى على طريق الحل السياسي الشامل. وأخيرًا، يركز المبدأ السادس على بناء تدريجي صحيح يؤدي إلى إطلاق عملية سياسية تفضي إلى حل الدولتين. تُعد هذه المبادئ الستة ركيزة أساسية في المرحلة الثانية من مراحل وقف إطلاق النار الثلاث.

التهجير: الوجه الآخر للاستعمار الجديد

تأتي تصريحات زعيم المعارضة "الإسرائيلية" يائير لابيد، التي دعا فيها إلى تولي مصر إدارة غزة لثماني سنوات مقابل تسديد الديون الخارجية المصرية، كاشفة عن النوايا "الإسرائيلية" الحقيقية. هذه الدعوة ليست سوى محاولة جديدة لفرض وصاية إقليمية على القطاع، وإبقاء الفلسطينيين خارج دائرة القرار.

الأخطر من ذلك هو الطرح الأميركي الذي قدّمه الرئيس دونالد ترامب، والذي دعا إلى تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن. هذه المقترحات تعيد إلى الأذهان مشاريع التوطين التي طُرحت في مراحل سابقة، والتي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر إنهاء الوجود الفلسطيني على أرضه.

الرفض المصري القاطع لهذه المشاريع يعكس إدراكًا عميقًا لخطورة هذه الطروحات، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على الأمن القومي المصري ذاته. فتفريغ غزة من سكانها وتحويلها إلى منطقة خاضعة لوصاية خارجية يهدد التوازن الديموغرافي والسياسي في المنطقة، ويفتح الباب أمام سيناريوهات كارثية.

التحديات والفرص: كيف تبني مصر استراتيجيتها؟

إن مواجهة هذه التحديات تتطلب استراتيجية متعددة الأبعاد، تبدأ بتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية. تشكيل "لجنة الإسناد المجتمعي" يمثل خطوة إيجابية في هذا الاتجاه، لكنه يحتاج إلى دعم مؤسساتي قوي يضمن تجاوز الخلافات الداخلية ويعزز قدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم.

على المستوى الإقليمي، يجب أن تتجاوز القمة العربية الطارئة البيانات التقليدية إلى قرارات عملية تترجم الدعم السياسي إلى خطوات ملموسة. دعم إعادة الإعمار يجب أن يقترن بآليات رقابة عربية تضمن توجيه الموارد بشكل فعّال، وبما يخدم أولويات الفلسطينيين.

أما على المستوى الدولي، فإن مواجهة الضغوط الأميركية و"الإسرائيلية" تتطلب سياسة خارجية نشطة، تقوم على بناء تحالفات جديدة مع القوى الصاعدة، وتعزيز حضور القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.

نحو رؤية مستقبلية مستقلة

إن كانت خطة إعادة إعمار غزة ليست مجرد مشروع هندسي، بل هي جزء من معركة أوسع تهدف إلى الحفاظ على الحقوق الوطنية الفلسطينية، ورفض أي وصاية خارجية. في هذا السياق، تشكل المبادرة المصرية العربية فرصة لإعادة رسم ملامح النظام الإقليمي، عبر تعزيز التعاون العربي وتبني سياسات مستقلة.

غير أن نجاح هذه الخطة يعتمد على إدراك أن إعادة الإعمار ليست هدفًا نهائيًا، بل خطوة على طريق الحل السياسي الشامل، الذي يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة. هذه الرؤية تتطلب إرادة سياسية قوية، وقدرة على مواجهة الضغوط الخارجية، والتزامًا مستمرًا بحقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.

إن إعادة بناء غزة، في جوهرها، هي إعادة بناء للكرامة العربية، وتأكيد على أن مستقبل المنطقة لا يمكن أن يُرسم إلا بأيدي شعوبها. وفي هذا السياق، تمثل المبادرة المصرية نموذجًا لما يمكن أن يحققه التضامن العربي حين يقترن برؤية استراتيجية واضحة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور