ما بين عمليات "نصر من الله" عام 2019 على محور "نجران" و"البنيان المرصوص" عام 2020 شرق صنعاء، تنوعت الرسائل السياسية والميدانية اليمنية، ورغم ان حجم هاتين العمليتين كان كبيراً وواسعاً وامتد على مساحة متقاربة تجاوزت الـ 2500 كلم مربع، فالهدف المتوخى من كلا العمليتين كان تأكيد السيطرة والقدرة واظهار اليد الطولة للجيش واللجان الشعبية في كافة الميادين والمحاور والجبهات من حدود اليمن الدولة الى حدود العاصمة، والضرب عميقاً في البنية التحتية العسكرية للعدوان ومرتزقته على اختلاف ولاءاتها ومنعه من امتلاك أي قدرة على المناورة أو المبادرة على الأرض بعد افشال مناوراته السياسية لتعويم حكومة هادي من جهة وتمرير مبادرات "وقف النار" بلا شروط أو مكتسبات لحكومة صنعاء.
إلا أن الرسالة التي حملتها عمليات محور جيزان كانت أكثر وضوحاً وسلمت عن طريق البريد المضمون، لضمان وصولها للمرسل اليه بشكل مباشر لا يحتمل أي لبس في العنوان أو المضمون أو النتائج.
وهي جاءت تتمة "منطقية" وطبيعية للرسائل الجوية والصاروخية التي حملتها المسيرات اليمنية المتطورة والصواريخ البالستية الدقيقة الى العمق السعودي، للتذكير بقدرة الجيش واللجان على استهداف العمق السعودي برياً عبر عمليات واسعة ومتزامنة، تثبت من جديد ان استقرار السعودية الاقتصادي والأمني والعسكري وحتى "السيادي" مرتبط بوقف العدوان وانصياع حكام الرياض لإرادة اليمنيين وحقهم في تقرير مصيرهم.
وعمليات جيزان العسكرية وان كانت رسائل سياسية بالنيران، إلا أنها بتوقيتها (المُعجل المكرر) والاعلان عنها (المؤجل المكرر أيضاً) تذكير لرأس العناد السعودي بماهية القدرات اليمنية البرية وهي بمثابة "ضرب على الرأس" عسكرياً واثخان في سلب ارادة القتال وارادة العدوان على مواصلة جرائمه.
أما هدف الاعلان عن العمليات سياسياً، فهو اسقاط مناورات المبعوث الأممي مارتن غريفيث من البوابة السعودية، ودفعها ومن خلفها واشنطن الى التوقف عن تضييع الوقت بمحاولة فرض شروط "تحفظ ماء وجه العدوان" ومحركيه، ومنع واشنطن من الاستثمار في اعلاناتها الواهية والمتتالية والبروباغاندا التي تروج لها ادارة بايدن، ان لجهة وقف الدعم العسكري للعدوان أو الرغبة في "وقف الحرب في اليمن" طالما أنها لا تترجم على الأرض برفع الحصار ووقف الغارات على المدنيين وانسحاب القوات المحتلة ومرتزقتها.
وان كانت حكومة صنعاء لم تربط بين الاعلان عن عمليات جيزان وبين الحراك السياسي الحاصل حالياً، إلا أن تزامن زيارة المبعوث الأممي ولقاءاته مع القيادات اليمنية وبث الاعلام الحربي اليمني لهذه المشاهد، كان لافتاً، لا سيما ان بث المشاهد جاء بعد 48 ساعة على لقاء المبعوث الاممي مع الناطق الرسمي لأنصار الله محمد عبد السلام وقبل 24 ساعة من لقاء غريفيث مع السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، وما اسمعته القيادة اليمنية له من "رفض للطريقة الابتزازية لتحالف العدوان بالضغط على الشعب اليمني في لقمة عيشه ودواءه ومساومته في ملفات اخرى"، واستنكار للموقف الاممي المتغاضي عن ممارسات العدوان من حصار واغلاق للمرافئ والمطارات واحتجاز لسفن الأغذية والأدوية والمشتقات النفطية.
ولا شك بان وقع ما سمعه غريفيث على ما يحمله ومن حمَّله، كان أقوى لترافقه مع مشاهد واصوات دوي عبوات وقذائف ورصاص اليمنيين خلال اقتحامهم لمواقع القوات السعودية على الحدود.
أما ميدانياً، والحديث هنا يطول ويتشعب وعلى مسارات ثلاث مشابهة لمسارات العمليات، إلا أنه لا يمكننا أن نغفل عن حقائق ووقائع مثبتة ميدانياً وعسكرياً منذ أعوام طويلة وأهمها:
1- ان اقتحام المواقع السعودية على الحدود ليس أمراً جديداً ولا "خرق نوعي" مستجد، إذ سبق واقتحمت قوات الجيش اليمني واللجان الشعبية جبل الدخان وسيطرت عليه عام 2009، وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة الخوبة عام 2016 (والتي اصبحت القوات تطل عليها بعد عمليات جيزان الأخيرة وترصد كل حركة فيها) وفي كلا المرتين كانت قوات الجيش واللجان تنسحب من تلك المواقع دون أي اشتباك أو عمليات عسكرية.
2- ان محيط السلسلة الجبلية الحدودية التي كانت تتموضع فيها القوات السعودية يتشكل من تضاريس صعبة ومعقدة، وهي سلسلة متصلة سلكتها القوات اليمنية وسيطرت عليها بواسطة المشاة بينما كان الجنود السعوديون والسودانيون والمرتزقة المتموضعين فيها معززين بالآليات والمدرعات وبإسناد متواصل من سلاح الجو.
كما أثبتت هذه العمليات مجدداً أن جيش العدوان السعودي لم يتعلم ولم يطور اساليبه الدفاعية وبالتالي لم يستطع التعامل مع الهجمات وكرر عمليات الانسحاب الجماعي والفردي أمام تقدم مشاة الجيش اليمني واللجان الشعبية.
وأظهرت العمليات من جديد انعدام ارادة القتال لدى الجنود والضباط السعوديين والمرتزقة اليمنيين والسودانيين على حد سواء، ولجوئهم للفرار "مدبرين" في أغلب المشاهد، وسقوطهم صرعى فيما لو رفضوا الاستسلام للقوات المتقدمة.
تكتيكياً كان واضحاً لجوء القيادة الميدانية الى تنويع الخطط العسكرية وعدم الاعتماد على موجات الهجوم البشرية حصراً، اذ اظهرت المشاهد استخدام اساليب الكمائن المحكمة المعززة بالعبوات والمرصودة بالصواريخ المضادة للدروع ونيران القناصة التي تكفلت باصطياد الآليات والأفراد في حال لجوئهم الى الفرار عبر "مسارب" محسوبة سلفاً ومحددة من قبل خبراء يعرفون الارض وتضاريسها ويقدرون خيارات المدافعين ويحسبون عليهم انفاسهم.
كما استخدمت القيادة الميدانية للعمليات مجدداً أسلوب "الرعب والترهيب" من خلال امطار المواقع بمروحة نيران مختلفة من القذائف الصاروخية المباشرة والقوسية ونيران الرشاشات المختلفة، بالتزامن مع صرخات المهاجمين التي تدعوهم للاستسلام بشكل مستمر ومن مسافة صفر تنعدم فيها الخيارات بين الطلقة والصرخة.
في النتائج، أكدت البيانات الصادرة عن الاعلام الحربي تحرير 40 موقعاً على طول محاور العمليات في جيزان، وسقوط ما لا يقل عن 200 جندي سعودي ومرتزق يمني وسوداني بين قتيل وجريح واسير، وتدمير واحراق أكثر من 60 آلية ومدرعة، واغتنام كميات كبيرة من الاسلحة والذخائر والمعدات المتطورة.
وأمام المحاولات الفاشلة للإعلام المساند للعدوان للتشكيك بالعمليات وزعم تصويرها وفبركتها، وعد الاعلام الحربي اليمني ببث مشاهد اضافية وجديدة لمجرياتها وأكدت مصادر قريبة منه ان هذه المشاهد ستكون خاصة بالمرتزقة بعدما كانت المشاهد المعروضة سابقاً قد خصصت للضباط والجنود السعوديين ومواقعهم وآلياتهم.
وعليه وبحسب فهمنا لأساليب وتكتيكات الاعلام الحربي اليمني، يمكننا القول بأن هذه المشاهد الجديدة التي وعد ببثها (يوم الاثنين 31 أيار) قد تكون الأخيرة "المرئية" ولكن الكثير من اسرار ووقائع ونتائج عمليات محور جيزان سيتم حفظها لمراحل لاحقة قد يكون لوقع مفاجآتها دوي من نوع آخر.
الكاتب: جمال شعيب