"رجل بعين واحدة ويتنقل على كرسي متحرك تحوّل أسطورة، بل أيقونة، يهتف باسمه المقدسيون ويشغل استديوهات التحليل في الوسائط الإعلامية التقليدية والحديثة، قرّر الجميع، مقدسيون وغزاويون وإسرائيليون، أنه الرجل الوحيد الذي يقرر السلم والحرب في إسرائيل"، بهذه الكلمات وصفت صحيفة يديعوت أحرنوت قائد هيئة أركان الجناح العسكري لحركة حماس كتائب عز الدين القسام "محمد الضيف" المعروف بـ "أبو خالد".
منذ عشرات السنين، لم ينجح كيان الاحتلال بالوصول إلى الشخصية التي وصفتها منظومة الامن الاسرائيلية على أنه "قط بسبع أرواح"، وحتى الأيام الأخيرة من معركة "سيف القدس"، لم تتوقف تصريحات القادة الاسرائيليين بالتهديد والوعيد لاغتيال الضيف، إلا أن كل ذلك تبخر مع اعلان وقف اطلاق النار، كما الحال مع كل التهديدات الاسرائيلية التي لاحقت الرجل من التسعينيات حتى اليوم.
محمد الضيف في نظر الاسرائيليين
شغلت كلمات الضيف المعدودة وصوره الشبه المعدومة الرأي العام الإسرائيلي، وبالأخص الخبراء والمحللون العسكريون والسياسيون، حتى باتت الوسائل الاعلامية الاسرائيلية تخصص وقتًا من برامجها او صفحاتٍ من جرائدها لتحلل شخصيته التي أنهكت كيان الاحتلال.
يصف الصحفي في صحيفة يديعوت أحرنوت إيتاي إيلناي الضيف بأنه "رجل لا يتكلم إلا قليلًا، عاش تحت الأرض 30 عامًا، ليس في عجلة من أمره للظهور فوقها، رجل بعين واحدة ومشلول تمامًا، لكنّ عقله نظيف جدًا وما زال شغالًا".
أما خبير الشاباك، مايكل ميلتسن، وهو باحث في معهد السياسة والاستراتيجية ويتابع الضيف منذ أكثر من 30 عامًا يقول "عندما يحصل تهديد، نعتقد أن العرب يمزحون، لكن الضيف لا يعرف المزاح"، مضيفًا "على الرغم من كل نقاط الضعف الفسيولوجية لديه، فإن الرجل يعمل، وليس بمستوى دمية تقف على الطاولة ويحترمها الجميع، ويستمر عقله في إنتاج المزيد والمزيد من الأفكار حول العمل والإبداع في البعد العسكري"، لافتًا إلى أنه "كان طوال الوقت حلقة وصل بين القيادة السياسية والذراع العسكري، محمد الضيف هو رئيس الأركان لحماس وشخصية يصغون إليها جيداً".
وتبرر السلطات الاسرائيلية فشلها بالوصول الى الضيف من خلال ما قاله ضابط الشاباك المسؤول عن مطاردته في قطاع غزة "لقد كان متواضعاً جداً، ولديه قدرة ذاتية عالية نتيجة فهمه الخاص لذاته، وكلّها دفعته إلى التخفي، وهو ما صعّب على الشاباك الوصول إليه". أما المسؤول السابق في جهاز الأمن العام الاسرائيلي والذي كان قد كرّس ساعات طويلة للعمل على ملف الضيف يؤكد على وجود روح الضيف في كل العمليات العسكرية للمقاومة "كان دائمًا شخصًا نشعر بظله برفقة أنشطة حماس العسكرية، وإصدار التعليمات، وتحديد التوجهات".
وينضم الباحث في معهد دراسات الأمن القومي يوحنان زورف إلى جملة الخبراء الاسرائيليين الذين يندهشون من عظمة الضيف، وحول نجاته من محاولات الاغتيال التي خطط لها كيان الاحتلال يوضح "رجل له ألف روح، أوضح لأعدائه أنهم ليسوا الأقوى في العالم، إذ انفجر فيه صاروخان من طراز هيلفاير، لكنه قام من الرمال مثل طائر الفينيق، نظف ملابسه من التراب واستمر في طريقه".
شخصية محمد الضيف
استنادًا الى تحليلات الاسرائيليين من اعلام وخبراء ومحللين عسكريين، يمكننا أن نخلص إلى مجموعة من المواصفات التي تلخّص شخصية محمد الضيف:
- لا يفكر إلا بمحاربة الكيان الاسرائيلي، فبحسب مذيعة القناة العاشرة الاسرائيلية "علينا أن نعرف أن محمد الضيف يأخذ وقت بين معركة ومعركة لإعداد معركة".
- يتمتع بالزهد فلا يستغل منصبه للوصول إلى طموحات سياسية، فعلى الرغم من تمتعه بسلطة حقيقية إلا أن خبير الشاباك مايكل ميلتسن يعتقد أن الضيف "لا يحبّ، لا يريد، لا يرفع عينيه ولم يرفع عينيه في أي مرحلة إلى قيادة الحركة".
- ملتزم بالقوانين وهو أمر في غاية الأهمية في التنظيم العسكري، ويؤكد ميلتسن أن الضيف "يحتفظ باستمرار الفضاء العسكري كمساحة له، وعلى عكس كثيرين غيره، لا يفعل الكثير على المستويات السياسية، لأنه بشكل عام منضبط تمامًا".
- يتنفس القضية الفلسطينية ويعيش لأجلها، فقد ذكرت صحيفة يديعوت احرنوت عن فلسطيني عايش الضيف في بداية حياته "لقد كان رجلًا بسيطًا، ولكن لديه الكثير من الحكمة في الشارع، كان متدينًا ولكنه لم يكن متطرّفًا لم يكن يرتدي ملابس دينية صارمة، الواضح أنه كان مؤمنًا بمشاعر وطنية فلسطينية".
- شخصية متوازنة على كافة الصعد على قاعدة "أشداء على الكفار رحماء بينهم"، ويضيف الفلسطيني في صحيفة يديعوت أحرنوت "إنه أمين جدًا، شجاع جدًا، يعيش إحساسًا عميقًا بالهدف، وعلى الرغم أنه لا أمل له من العيش بحياة طبيعية إلا أنه رجل طيب القلب بصرف النظر عن الصرامة التي يواجهها الاسرائيليون منه".
الضيف يشكل حالة ضغط نفسية على الاحتلال
"تعرف اسرائيل جيدًا أن إيذاء محمد الضيف سيؤدي إلى حرب شاملة، سيكون دائمًا أقوى من أي اعتبار آخر"، هكذا يتحدث المحللون والاستخباراتيون الاسرائيليون على الرغم من تصريحات وزير الحرب الاسرائيلي بني غانتس بأن محاولات اغتياله ستتوج بالنجاح في آخر المطاف.
لا يعرف الاحتلال كيف يدير الأمور المتعلقة بالضيف، بسبب حضوره كـ "شبح"، إذ لم يشغل جهاز الشاباك ومجتمع الاستخبارات والرؤساء الذين تعاقبوا على أمر آخر أكثر من التوصل لاغتيال الضيف، كونه وباعتراف اسرائيلي "هو الشخص الأكثر تعرّضًا لمحاولات الاغتيال من قبل قوات الاحتلال". فلأكثر من نصف قرن، يخدع الضيف المخابرات ويختفي عن الخريطة علمًا انه على اتصال دائم بالناس بحكم منصبه.
"هذا الرجل ليس له حياة سوى الحرب، ما دام حيًا فلن يكون هناك سلام أو مصالحة مع إسرائيل"، تبين هذه العبارات حجم الضغط النفسي الذي يعيشه كيان الاحتلال، وخصوصًا مع تردد اسم الضيف كثيرًا في الآونة الأخيرة وفي أحداث معركة "سيف القدس"، حيث ارتفعت أصوات المقدسيين الهاتفة للضيف "حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد ضيف". ويقول فلسطينيون أن ضابط شرطة إسرائيلي بطلب من الشباب "اهتفوا لمن شئتم إلا لمحمد الضيف"، فما كان منهم إلا أن كرروا هذا الهتاف عمدًا، فالفلسطينيون يعرفون جيدًا ماذا يحصل للإسرائيليين لمجرد ذكر اسم الضيف الذي يهدد سيادتهم ووجودهم.
دور محمد الضيف في "سيف القدس"
"إنّ قيادة المقاومة والقسام ترقب ما يجري عن كثب في الشيخ جراح، وإنّ لم يتوقف العدوان في الحال فإننا لن نقف مكتوفي الأيدي"، بهذا النداء توجه الضيف إلى قوات الاحتلال مع بداية الاعتداء على الأهالي في حي الشيخ جراح.
كان لهذا النداء وقع خاص لدى الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، فهم الذين جلسوا في استديوهات التحليل وأخبروا الرأي العام الإسرائيلي أن الضيف هو من يقرر السلم والحرب في "إسرائيل"، والمعروف أن الضيف نادراً ما يتحدث، وإذا تحدث فإنّ الإسرائيليين يستمعون لكلماته ويحللونها جيداً قبل الفلسطينيين.
بعد ذلك النداء، غامر نتنياهو واعلن بداية العدوان على قطاع غزة، فما كان من الضيف إلا أن أطلق الصلية الأولى من الصواريخ على القدس وتل الربيع (أو ما يسمى تل أبيب)، وبدأت حرب من نوع جديد كرّس فيها الضيف معادلات جديدة، فهو من يمنح الهدنة ومن يحدد التوقيت، وهو من يقرر ماذا سيفعل مستوطنو تل الربيع (تل أبيب بحسب المسمى الاسرائيلي)، فانتقلت المعركة من غزة إلى الكيان الاسرائيلي "بأمر من قائد هيئة الأركان أبو خالد الضيـف، يرفع حظر التجوال عن تل أبيب ومحيطها لمدة ساعتين من الساعة 10 وحتى الساعة 12 ليلا، وبعد ذلك يعودون للوقوف على رجلٍ واحدة".
المعادلة الثانية التي كرّسها الضيف هي أن القدس أصبحت كلمة السر للحروب الجديدة، وأي محاولة للعربدة الإسرائيلية في المسجد الأقصى ستفتح النار على الكيان، هذه المعادلة التي اعتبرها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بمثابة "تطوّر تاريخي، إنه قرار تاريخي استثنائي نوعي، فالمعادلة التي يجب أن نصل إليها: القدس يعني حرب إقليمية".
إنه اللغز، أسطورة البطولة والتضحية، الأيقونة، يعرف الإسرائيليون جيّدًا أن خصمًا مثل محمد الضيف، ليس لديه أي طموحات مادية وسياسية، ولديه هدف وحيد تتركّز حركاته وسكناته على أساسه، ويعتنق قضيته، وفوق ذلك كله يملك شخصية متّزنة، والمعروف أن الاتزان هو شرط نموذجي للشخص الأيقونة، كل ذلك سيجعل منه قوة لا تنتهي.
الكاتب: غرفة التحرير