تشهد الساحة الفرنسية تبايناً ما بين المواقف الحكومية التي تتفق مع باقي القوى الغربية وما بين موقف جزء متحرك من الشارع الفرنسي. وإذا ما كان يقاس مزاج الشعوب من خلال الحكام فإن معاقل الديمقراطية في الغرب قد بدأت بالإنهيار واحدة تلو الأخرى مع تصاعد التحركات الشعبية ضد سياساتها الداعمة للصهيونية. وعلى المستوى الرسمي، فقد وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته إلى جانب الكيان الصهيوني وضد أي صوت يخالفه.
ومن خلال المواقف التي اتخذها وزير الداخلية الفرنسي، جيرار دارمانان على الصعيد الداخلي، ومنها اتهامه لاعب كرة القدم النجم كريم بن زيمة الجزائري الأصل في 26 الشهر الماضي، بأن لديه صلات مع جماعة الإخوان المسلمين لأنه تضامن مع غزة، وأعلن دعمه لها على وسائل التواصل الإجتماعي، وطالب بسحب الجنسية منه، يمكننا أن نشهد على الحصار الداخلي الذي تنتهجه الحكومة الفرنسية ضد المتضامنين مع فلسطين. اذ اعتبر دارمانان أن من مهماته إدانة بن زيمة، لأنه قادر على التأثير على عشرين مليون من متابعيه، حتى لو قال كلاماً بسيطاً "أنه يصلي لضحايا فلسطين". هذا الإتهام يأتي في إطار الموقف الذي اتخذته فرنسا سياسياً ودبلوماسياً، وحاولت إلى جانب ألمانيا والنمسا وبريطانيا منع المظاهرات ورفع الأعلام الفلسطينية. بل ذهب دارمانان أبعد من ذلك فقال إن "لمس يهودي في فرنسا يؤثر على الجمهورية بأكملها".
في 22/ 10، بعد رفع الحظر القانوني على المظاهرات المتضامنه مع غزة وفلسطين من قبل القضاء الفرنسي، بدأت المظاهرات ضد القرار الرسمي الفرنسي بالوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني تحت ذريعة الدفاع عن النفس، تكررت التحركات، ولكن يبدو أن تحرك الشارع الفرنسي من أجل نصرة غزة مازال محدوداً وإن بدأ بالتوسع. وفي محاولة لتلطيف الأجواء داخلياً بعد المظاهرات التي شهدتها باريس منذ الثلث الأخير في الشهر الماضي، وصلت ثلاث طائرات فرنسية إلى مصر في السادس من هذا الشهر، تحمل مساعدات من أجل نقلها إلى غزة، ولكن وصول هذه المساعدات منوط بسماح سلطة الإحتلال لها بالدخول. وأرفقت فرنسا المساعدات بحاملة المروحيات "ديكسمود"، وقالت انه سيتم تجهيزها لتكون قارب مستشفى مؤقت وذلك من أجل دعم قطاع غزة الطبي. الغريب أن وزير القوات المسلحة الفرنسية سيباستيان ليكورنو أرسل رسائل إلى كل من حزب الله والعدو الصهيوني يحثهما على عدم القيام بأي شيء يمكنه تقويض عمل البعثة!
تصريح غريب فعلياً قد يقوم الكيان بقصف المشفى المائي الفرنسي بحجة وجود مقاومين فلسطينيين على متنه، ولكن ما الذي يمكن للوزير الفرنسي أن يخشى من حزب الله القيام به. في البداية، من الواضح أن التصريحات للداخل الفرنسي الذي بدأت تتسارع وتيرة المعترضين فيه على سياسة ماكرون وبدأت الشعارات تصدح بأنه شريك في جرائم الإبادة في غزة. وثانياً، التصريحات تعبر عن موقف فرنسي واضح تجاه كل من يحارب "اسرائيل". وثالثاً، وهو الأهم، محاولة لضبط توسع الحرب لتصبح على امتداد المنطقة، وبالتالي الإقليم.
خلال زيارة الكيان، اقترح ماكرون هدنة إنسانية في وقت كان فيه الكيان يحضر لإجتياح غزة، وسبقتها تصريحات تعطي الحق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها. وبعد عودة ماكرون بيوم واحد من زيارة تل أبيب أرسلت حاملة المروحيات "تونيرر" من ميناء طولون في جنوب فرنسا إلى مياه غزة في 25 الشهر الماضي. اذ علينا ألا ننسى أن الفرنسيين هم ثاني أكبر جنسية منخرطة في الجيش الإسرائيلي بعد الأميركيين، وبحسب السفارتين الفرنسية في تل ابيب والصهيونية في فرنسا، ليس هناك أعداد محددة فكلا السفارتين تمتنعان عن كشف الأعداد. ولكن بحسب موقع "ميدل إيست آي" هناك مئات الالآف من جنود الإحتياط، ومن بينهم الكثير من حملة الجنسيتين الإسرائيلية والفرنسية، وبحسب تقرير نشرته ليبراسيون في العام 2018 تم إحصاء حوالي 4185 من هؤلاء، وقالت الصحيفة أن العدد قد يكون أعلى من ذلك بكثير، وأن اليهود الفرنسيين يمثلون ما بين 1.7% إلى 3.5% من إجمالي الجيش. كما أن فرنسا تضم أكبر عدد من اليهود في فرنسا، والغريب انها تدعى بالجالية اليهودية، وكأنهم ضيوف فيها، وبعد معركة طوفان الأقصى، عاد الكثير منهم إلى الكيان المؤقت لقتال الفلسطينيين في غزة.
وحتى 11 تشرين الأول/ اكتوبر، تم الإبلاغ عن مقتل 4 فرنسيين و13 في عداد المفقودين، وهذا ما يفسر مسارعة ماكرون لدعم نتنياهو. هذه الحقائق حول العلاقة العضوية ما بين فرنسا والكيان يمكن من خلالها فهم أسباب توقف توتال عن العمل في لبنان، والتواطئ الجلي مع الصهاينة ضد الفلسطينيين، ومحاولة الحكومة استصدار قرارات تمنع التظاهر إلى جانب الفلسطينيين والحكم بالسجن حتى 5 سنوات على من يحمل العلم الفلسطيني. مع العلم أن فرنسا كانت تقدم نفسها كقائدة للديمقراطية وحرية التعبير. ولم يكتف ماكرون بالذهاب للقاء نتنياهو وتقديم الدعم المعنوي والعسكري، بل قام بدفع أفراد من حكومته للنزول إلى شوارع فرنسا للتظاهر منادين بحق الكيان في الدفاع عن النفس. وفيما توجهت المظاهرات المؤيدة للصهاينة نحو ساحة تروكادير، أضيئ في برج إيفل علم إسرائيل.
ماكرون: لإنشاء تحالف دولي للقضاء على حماس
دعا ماكرون خلال التظاهرات الكيان للقيام بـ "رد قوي وعادل"، وإلى بقاء الفرنسيين متحدين والإمتناع عن أي تحركات قد تثير إضطرابات في فرنسا. وخلال زيارته إلى الأرض المحتلة كبرت الدعوة أكثر فأكثر، لتصبح دعوة لتحالف دولي من أجل القضاء على حماس "بلا رحمة". والمروع أن تصريحه هذا جاء في 24 تشرين الأول/ اكتوبر أي بعد أسبوع على مجزرة مستشفى المعمدان. تعتبر فرنسا جميع الفصائل، التي تحارب الصهاينة إرهابية، ومنهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحاولت وزارة الداخلية الفرنسية الحكم بطرد الناشطة الفلسطينية مريم أبو دقة في الجبهة الشعبية والبالغة من العمر 72 عاماً، والتي كانت قد وصلت فرنسا في إطار مؤتمر حول "النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني"، إلا أن القضاء الإداري الفرنسي رد قرار الطرد، ويبدو أن الدولة الفرنسية ستستأنف القرار.
إن المواقف التي تتخذها الحكومة الفرنسية لا تعبر عن مواقف فرنسية متطرفة فقط، بل هي مواقف صهيونية مئة بالمئة. فالجالية اليهودية المتصهينة تعد الأكبر في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومعظم الذين قاتلوا النازية، أو ما يسمى بالمقاومة الفرنسية كانوا من اليهود، ولذلك كان قتل عملاء النازية في فرنسا وشنقهم دون محاكمات سهلاً على هؤلاء. هذه الحقائق، التي نتجنب ذكرها أو الخوض بها بإيحاء ضمني ورثناه مع ثقافة الإستعمار الغربي، هو أحد أسباب جهلنا بعمق التأثير الصهيوني في فرنسا، ولربما علينا ان نعيد قراءة التاريخ الفرنسي الإستيطاني في الجزائر وفي أفريقيا ومراقبة أشكاله المختلفة، واستبيان عدد الصهاينة أو التجار اليهود من بلجيك وفرنسيين والذين يتحكمون بتجارة الثروات الباطنية والأحجار الكريمة والنفيسة في أفريقيا، وبالذات تجارة الذهب والبلاتين والماس.
وهنا تجب الإشارة أنه لا يمكننا التمييز بين المصالح الإقتصادية والمصالح السياسية ومصلحة الطغمة الحاكمة في فرنسا، كما في معظم دول اوروبا الحالية، والتي ترتبط إما بالأميركيين أو بما اصطلح على تسميته بالأوليغارشية، وهم أغنياء المرحلة ما بعد سقوط الشيوعية، ومعظم هؤلاء من اليهود، وهم ينتشرون في أنحاء اوروبا الشرقية أو الشيوعية سابقاً. مع العلم أن معظم حكام دولة الكيان وكبار رجال الحكم فيها من هرتزل حتى بن غوريون وغولدامائير وشارون وصولاً إلى اولمرت ونتنياهو، هم من يهود الإشكناز الذين يتحدرون من اوروبا الشرقية وهي جزء من المنظومة الأوليغارشية اليهودية. ولذلك كان من الصعب على هؤلاء المرتبطين بأمريكا والصهيونية العالمية خلال مرحلة القطبية الأحادية الأميركية أن يتحركوا خارج حدود الملعب الذي رسمته الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبالتالي فرنسا.
وبالعودة إلى فرنسا، التي تلقت الصفعات الواحدة تلو الأخرى في عملية إجلاء وإخلاء من دول إفريقيا الواحدة تلو الأخرى، تجعل وضع فرنسا الاقتصادي صعباً وفي موقف يصعب عليها التخلي فيه عن اعتمادها الكلي على الولايات المتحدة ويحكم إرتباطها بالرأسمالية العالمية والمنظومة الراعية للمصالح الصهيونية العالمية. هذا إذا ما أرادت فرنسا اللحاق بالركب الإقتصادي المرتبط بالولايات المتحدة أو الرأسمالية العالمية، وإلا فستفقد فرنسا حصتها، تماما كما حدث معها حين عارضت الحرب على العراق في العام 2003. واليوم لفرنسا أطماع في غاز فلسطين ولبنان والإستثمار فيهما، ولديها حاجة لتغطية حاجاتها للغاز والطاقة، وما يحدث مع الكيان الصهيوني سيقوض قدرته على انتاج الغاز الذي تحتاجه أوروبا، بعد أن قامت الأخيرة مجتمعة، وبغباء التابع، بمقاطعة الغاز الروسي.