زينب عقيل
يبدو أنّ الكلمات الطنانة، مثل "الدمقرطة" و "التمكين" و"التعاون" و"المشاركة مع الشباب"، لم تعد إلا ضجيجًا في أسماع الإفريقيين، لشدة ما رفع بها الحكام الفرنسييون الصوت في تلك البلاد المستضعفة. لكن المائز اليوم، أن صداها بدأ يُسمع على شكل انقلابات على فساد الاستعمار المقنع، والذي أبدع في تمكين الفاسدين لإبقاء هذه الدول ضعيفة، تمامًا كما أبدع في نهب الثروات الإفريقية تحت مرآى ومسمع العالم كله. لكن الدوائر تدور، وليس في سنن الحياة طاغيًا قويًا إلى الأبد، ضعفت فرنسا ومن خلفها كل الدول الغربية بحيث أصبحت الشعوب الإفريقية قادرة على إعادة صدى الكلمات إلى قواميسها الصحيحة، حيث كان صداها يتردّد كاذبًا في حياة الإفريقيين.
في الانقلاب الغابوني الذي أدانته –طبعًا- الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وفرنسا، ظهر الجنرال نغويما في خطاب متلفز وقال إن الجيش سيتحرك "بسرعة ولكن بثبات" لتجنب الانتخابات التي "تكرر نفس الأخطاء" والتي أبقت عائلة بونغو في السلطة لمدة 55 عامًا. لا شكّ أن ثروة البونغو وإفرازها في باريس كان أسطوريًا. ولا شكّ أن النرجسية الفرنسية لم تتمكن من رؤية أن العولمة قد أضعفت فرنسا التي تعيش مفارقة تاريخية، حيث تنسب إلى نفسها قوة لم تعد موجودة ببساطة، وتغمض عينيها عن القادة الإفريقيين المحسوبين عليها، الذين يلتقطون الصور في سان بطرسبيرغ إلى جانب بوتين. و بينما كانت فرنسا تعيش على أمجاد الاستعمار القديم وتلعب دور الشرطة القذرة، كان منافسوها في إفريقيا روسيا والصين يكتسحون العقود.
في خطاب ألقاه أمام السفراء الفرنسيين، تحدّث ماكرون عن التحالف بين من "نصّبوا أنفسهم" من الأفارقة و"الإمبرياليين الجدد". لافتةٌ هي عبارة "نصّبوا أنفسهم". خاصةً أنه ليس معروفًا من أين يأخذ ماكرون –كنموذج عن الحكام الفرنسيين-والآتي من قارة ثانية، الحق بتنصيب نفسه، ولا يحقّ للإفريقيين بـ "تنصيب أنفسهم".
في نظر ماكرون، الإمبرياليين الجدد هم روسيا والصين. يعتقد الرئيس الفرنسي أنهما "قطرتا كلمات سامة" في عقول الانقلابيين "المتحمسين للغاية"، وأثارت لديهم "حججًا قديمة" حول السيادة والاستغلال الاستعماري. لكن بغض النظر عن فكرة الامبرياليين الجدد، هل قال "حججًا قديمة"؟ وما هي الحجج الجديدة؟ هل هي نموذج الديموقراطية وحقوق الإنسان الذي قدموه للأفارقة؟ هل ثمة من في هذا العالم يصدّق ما ادعاه ماكرون بأن فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، "ليس من أجل التغلّب على مستعمراتها السابقة" ولكن "لأن هناك تهديدًا إرهابيًا، وطلبت منا الدول ذات السيادة المساعدة". ألم تُنشر التقارير التي أكّدت أن الإرهاب في هذه الدول ازدادت هجماته خمسة أضعاف، بعدما أعلنت فرنسا بمساعدة الولايات المتحدة حربهم على الإرهاب؟.
يفخر الجيش الفرنسي بالإعلان عن "انتصارات" في منطقة الساحل تحت اسم "عملية برخان"، مثل تدمير مستودعات الذخائر أو السيارات أو المعسكرات أو، "تحييد" neutralization الجهاديين كما يعبّر خطاب أخبار الجيش الفرنسي ويتبناه بعض الأفارقة، ويقصدون بها "القتل". ولكن في البيانات الرسمية معظم ضحايا عملية برخان مجهولون، ولا نعرف عنهم شيئًا سوى أنهم قتلوا في تبادل لإطلاق النار أو غارة جوية، في مكان غالبًا ما يتمّ تحديده بشكل غامض، دون الكشف عن السبب الحقيقي لوفاتهم أو ما حدث لجثتهم. ولم يتم إثبات إدانتهم الفعلية أبدًا - ولا يتم التشكيك فيها من قبل وسائل الإعلام التي تنقل البيانات الصحفية الرسمية، أكثر من عضويتهم فيما يسمى بجماعة إرهابية مسلحة.
أما عن "الليبراليين الجدد"، يبدو أن العقل الأبيض الغربي لا يمكنه أن يصدّق أنّ هذه الشعوب يمكنها أن تشعر بإنسانيتها وأن تستشعر حقوقها وتقوم لأجلها، ويعتقدون أنّه لا بدّ للإفريقي إذا خرج من عباءة استعمارهم فإنه لا محالة سيحتاج إلى استعمارٍ آخر ليديره. صحيح أنه لا بدّ أنّ الفراغ سيملؤه أحد، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ملئً استعماريًا، ألا يمكن أن يكون ثمة شراكات وتحالفات بدل العلاقات السامة؟
ما كان يحصل لتلك الشعوب أنها كانت مدفونة في القرن الإفريقي، وعندما يدفن الناس في عمق الظلم والعنصرية، سيجدون صعوبة في رؤية الصورة الأكبر. والتحسينات الصغيرة التي كان يقدمها المستكبرون كانت كل ما يمكن توقّعه وأحيانًا أكثر. فقط عندما يبدأ الناس في تخيل التحرر الكامل ، فإنهم يدركون المدى الكامل لخضوعهم. ويصبحون أكثر غضبًا، وبعدها لا يمكن لأحد أن يعيدهم إلى تلك الظلمات. هي العولمة والتطوّر الطبيعي ما جعل هؤلاء يرون المشهد كاملًا، ويضعف أولئك على كافة المستويات.