في خطابه الأخير في السنوية الأولى للحرب على أوكرانيا، ركّز بوتين بشكل لافت على الحرب الثقافية التي تتعرّض لها روسيا. بعيدًا عن موقفه من الاتحاد السوفياتي السابق، يعرف الرئيس الروسي أن الاتحاد السوفياتي قد سقط - بدرجة ما - بفعل الدعاية الغربية وقدرتها على الاختراق الالثقافي الذي تسبب بانهيار الأيديولوجيا. أو على الأقل هذا ما يعتدّ به المحللون الغربيون.
في معظم خطاباته ينتقد بوتين الثقافة التي يحاول الغرب نشرها خاصة لناحية تغيير القوانين الطبيعية للأسرة، وما أوصت به الأديان. غالبًا ما يتسلّح بوتين بالعودة إلى الدين لمواجهة هذه الأفكار. في بداية استلامه للسلطة عام 2000، يعتبر بوتين أن الغرب حاول محاربته سياسيًا من خلال لوبي المثليين، وهو صاحب المقولة الشهيرة إنه طالما على القيد الحياة فإن الرجل سيتزوج امرأة، والمرأة لن تتزوج إلا الرجل.
مهمة إنقاذ الشعب الروسي الثقافية
وعندما تبلورت رؤيته الثقافية، أصدر مرسومًا ثقافيًا عام 2014 بشأن "التعديلات على أساسيات السياسة الثقافية للاتحاد الروسي". والتي تمّ ربطها مباشرةً بالأمن القومي، حيث تتولى الدولة من خلال هذا المرسوم " مهمة إنقاذ الشعب الروسي، والحفاظ على القيم والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها وحدة المجتمع الروسي، وضمان مزيد من التطور للبلد كدولة اجتماعية تضمن الحماية حقوق الإنسان والحريات، وتحسين نوعية حياة المواطنين".
يتكون الإطار القانوني لأساسيات المرسوم من دستور الاتحاد الروسي، والقانون الاتحادي واستراتيجية الأمن القومي. تحدد هذه الأساسيات أهداف وغايات السياسة الثقافية للدولة، والمبادئ الأساسية لتنفيذها. وقد تمّ اعتبارها أساسية " لضمان التنمية الثقافية والإنسانية ذات الأولوية كأساس للازدهار الاقتصادي وسيادة الدولة والهوية الحضارية للبلد، وتعزيز الهوية المدنية لروسيا بالكامل، ووحدة وتماسك المجتمع الروسي، وتحسين نوعية الحياة في الاتحاد الروسي".
يشير هذا المرسوم إلى الاستثمارات الممنهجة والمتسقة للحفاظ على الهوية المدنية الروسية وتقويتها على أساس القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية، لم تكن جهودها كافية، وهو الأمر الذي خلق خطر حدوث أزمة إنسانية بحسب الوثيقة. حيث تمّ تشويه الذاكرة التاريخية، وانتشار الأفكار عن التخلف التاريخي لروسيا بسبب التقييم السلبي لفترات مهمة من التاريخ القومي، بحصل ذلك لصالح فكرة "تفوق الغرب" الذي لم يأتِ منه سوى تفتيت التماسك المجتمعي بسبب التوجه الفردي الذي يمزق روابط الاسر والصداقات وحسن الجوار، ويؤدي إلى التعصب وتجاهل حقوق الآخرين.
السيادة الثقافية لتطور المجتمع
يربط بوتين شخصية الفرد الروسي وتطورها بتطور التنمية المجتمعية ونوعية الحياة، وهو الأمر الذي سينعكس مباشرة على الصناعات الابداعية. ثم يضيف على الفقرة الثالثة عشر من القانون، فكرة "السيادة الثقافية". وهي "مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية التي تسمح للناس والدولة بتشكيل هويتهم، وتجنب الاعتماد الاجتماعي والنفسي والثقافي على التأثير الخارجي، والحماية من التأثير الأيديولوجي والإعلامي المدمر، والحفاظ على الذاكرة التاريخية، والالتزام القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية".
في القسم الرابع من المرسوم يعدّل بوتين الفقرة الثالثة لتصبح بالصيغة التالية: "تعزيز الهوية المدنية الروسية بالكامل ، والحفاظ على فضاء ثقافي واحد للبلد، وضمان السلام والوئام بين الأعراق والأديان". في تلك السنة تحديدًا، أي عام 2014، اعترفت روسيا الاتحادية بالدين الاسلامي كثاني دين رسمي في البلاد. وما زالت لافتة إلى اليوم تنديدات بوتين بالرسوم المسيئة لنبي الإسلام، وينتقد كل ما يسمى حريات فكرية ويسميها إساءات للأديان.
"تشكيل لجنة من القادة الدينيين" على طاولة البحث بين إيران وروسيا
يحمل هذا المرسوم أيضًا بندًا مهمًا وهو "تعزيز دور الاتحاد الروسي في المجال الإنساني والثقافي العالمي". الكثير من التحليلات فسرت تركيز بوتين على الحرب الثقافية على أنها محاولة للرجل لاستمالة الدول الشرقية التي تعاني بدورها من الاختراق الثقافي الذي يدمّر الهويات ويسهل من بعدها اختراق المجتمعات والسيطرة عليها من خلال العولمة. وبالتالي تشكيل معسكر شرقي مدعوم بالسياسة والعسكر للحفاظ على الهويات والقوميات. الواقع أنه ثمة مبادرة دعا إليها رئيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية في إيران، محمد مهدي إيماني بور، تهدف إلى تشكيل لجنة دينية روسية إيرانية مشتركة لمواجهة الأزمات التي تسببها الحروب. وذلك خلال أعمال الجولة الـ12 من الحوار بين الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية في روسيا، والتي عقدت صباح يوم الثلاثاء 21 فبراير/ شباط الجاري في موسكو، وقد تم تكريم الراحلين، آية الله تسخيري وسعادة المطران فيوفان، وهما من المؤسسين لهذه الحوارات التي تقوم على تعاون وحوار عمره 25 عاما بين البلدين.
اقترح بور في هذه المبادرة تشكيل لجنة من القادة الدينيين المتحالفين لتبنّي مواقف مشتركة في الأزمات الإنسانية أو الأخلاقية مثل الأزمات الناجمة عن الحروب العسكرية، والكوارث الطبيعية، وإهانات المقدسات الدينية، والانحرافات الأخلاقية الناجمة عن الروايات المزيفة لإتخاذ مواقف مشتركة في الأزمات الأخلاقية والإنسانية.
الكاتب: زينب عقيل