لطالما كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على رأس الأجندة الأميركية، ولطالما كانت إحدى أبرز التهديدات القومية على أمنها القومي بزعمها.. وكذلك أبرز التهديدات للأمن الإسرائيلي وفق ما نشره التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي مؤخراً واضعاً إيران وحزب الله لبنان كأبرز التهديدات.
قبل يومين تم الاعتداء على شحنات متجهة من العراق إلى سورية محملة بمواد غذائية بمزاعم أنها تحمل الأسلحة، وحتى الآن لم تعلن الجهة التي قامت بهذا العمل الذي يرقى إلى العمل الإرهابي كونه استهدف مساعدات إنسانية، والذي سبقه يوم ضربات عبر طائرات مسيرة دقيقة على منشآت عسكرية في أصفهان، لكنها سقطت دون تحقيق أهدافها، فمن المعروف أنّ إيران تحمي أسطح منشآتها العسكرية بهياكل مضادة للطائرات بدون طيار تشبه تلك التي يستخدمها الغرب ضدّ الطائرات المسيرة الروسية لحماية الدبابات والشبكات الأوكرانية من الهجمات.
ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأحد عن مسؤولين أميركيين قولهم إن "الغارة بالمسيّرات التي استهدفت منشأة عسكرية في أصفهان نفذتها إسرائيل"، واعتبر المسؤولون الأميركيون بأنّ "استهداف الموقع العسكري في إيران هو محاولة أميركية – إسرائيلية لإيجاد طرق جديدة لاحتواء طموحات إيران النووية والعسكرية"، وفي هذا الاعتقاد الصادر عن مسؤولين أميركيين تأكيد ضمني على أنّ جميع المحاولات السابقة لإخضاع إيران قد فشلت، وآخرها دعم وتمويل التظاهرات، وتأجيج الشارع الإيراني، وبالتالي فشل أميركي ذريع في السيناريو الذي رسمته الولايات المتحدة لاحتواء الجمهورية الإسلامية والسيطرة عليها، غير أنّ المحاولة الأميركية – الإسرائيلية لاحتواء طموحات إيران النووية والعسكرية قد فشلت أيضاً باستهدافها الموقع العسكري نتيجة التصدّي الإيراني لها، وعدم تحقيق الأهداف المرجوّة من العملية التي قد تنذر بوقوع حرب شاملة ما بين كيان الاحتلال المؤقت وإيران، لكن الرد الإيراني كان هادئاً كعادته غير مستفز فمن له باع بحياكة السجاد، ودمج الألوان بدقة متناهية يتمتع بها في عالم السياسة والدفاع وبقوله بأنه سيحتفظ بحق الرد فإنه يدرك جيداً متى يكون هذا الرد سواء كانت الطائرات تابعة لكيان الاحتلال المؤقت أو لراعيته أميركا.
رغم أنّ العملية بحدّ ذاتها هي ردة فعل اسرائيلي على خسائر تل أبيب المتتالية امام محور المقاومة لا سيما في الضفة مؤخراً، ناهيك عن كونها لم تكن بالمستوى الذي عمل الإعلام العبري على تظهيرها به، هي رد فعل ايضا على كشف واعتقال الاستخبارات الايرانية 12 شبكة تعمل مع الموساد، وإفشال المساعي الغربية الاسرائيلية لإشعال الداخل الإيراني، وثمة اعترافات رسمية من مسؤولين ومستشارين في مجلس الأمن القومي للكيان المؤقت يتحدثون فيها عن عمل يجري على قدم وساق لزعزعة الأوضاع الداخلية الإيرانية، وبالتالي تهيئة الأجواء لضرب إيران مستقبلاً، غير أنّ السلطات الإيرانية استطاعت السيطرة على التفلت الأمني، وكبح جموح الاحتجاجات المدعومة من اجهزة استخبارات واعلام 47 دولة وعلى رأسهم الاستخبارت المركزية الاميركية CIA والموساد.
كما أنّ هناك رابط وثيق بين هذه الضربات في اصفهان وبين العمليات البطولية التي قامت بها الفصائل والقوى الفلسطينية في داخل الأراضي المحتلة، وتحديداً في الضفة الغربية والقدس، والصهاينة يعلمون جيداً مدى الدعم الإيراني للفصائل الفلسطينية كما أدركوا بوضوح ما قاله قائد قوة القدس الجنرال اسماعيل قاآني في تلك الليلة تحديداً "أدعوا وأنصح الصهاينة أن يلملوا حقائبهم ويغادروا فلسطين لأنهم سيخرجون في الوقت المناسب بالقوة"، ثمة سبب آخر وراء هذا الاعتداء هو محاولة نتنياهو صرف الأنظار عن الداخل الفلسطيني وعن انتصارات المقاومة، وربما أيضاً الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الايراني حسين امير عبد اللهيان إلى اسماعيل هنية لزيارة طهران والتواصل مع الجهاد الإسلامي الذي سيترجم بتوحيد قوى المقاومة في الداخل الفلسطيني ورفع حدة العمليات البطولية في الأراضي المحتلة.
في المحصلة، الأيام الأخيرة شهدت مجموعة من التطورات تؤشر إلى وجود نية تصعيد على محاور عدة منها:
في ملف حرب أوكرانيا، قرر قادة حلف شمال الأطلسي التصعيد عبر مدّ أوكرانيا بأسلحة نوعية ذات طابع هجومي لمنع أي تفوق لروسيا وإطالة أمد الصراع لتعزيز قدرات القوات الأوكرانية من أجل طرد القوات الروسية من الأراضي التي احتلتها.
في ملف إيران، تزامن التصعيد الغربي ضد روسيا مع تصعيد أوروبي - أميركي ضد إيران بعد قرار الاتحاد الأوروبي ودول غربية فرض عقوبات على "الحرس الثوري" وقيادات وكيانات إيرانية، وكذلك استهداف المنشآت العسكرية في أصفهان، وقبيلها زعزعة الداخل بدعم الاحتجاجات وإشعالها.
وعندما يكون التصعيد ضدّ إيران، فإن ذلك سيشمل كل الدول الحليفة لها، وهو ما بدأ بالفعل في العراق مع عودة التظاهرات الى الساحة العراقية التي تشهد انهياراً لعملتها مع استمرار المشاكل الاقتصادية، كذلك شهدت الساحة اللبنانية انهياراً غير مسبوق للعملة المحلية، وتضخماً في الأسعار لا مثيل له وانتشار الفوضى، إضافة إلى انقسام في الجسم القضائي وإلى تصعيد في الشارع سيغذيه الانهيار المالي والاقتصادي، مع ترجيح تدويل ملف تحقيقات انفجار المرفأ بهدف الضغط على مفاصل السلطة الحاكمة عبر بوابة العقوبات الأحادية.
وفي سورية التي تعاني أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة وتأثر 90% من قطاع النفط والطاقة بسبب العقوبات والاحتلال الأميركي لخزان النفط والغذاء في الشمال السوري، وانهيار غير مسبوق لسعر الصرف مقابل الليرة.
وفي اليمن المحاصر من قبل التحالف المدعوم أميركياً، ما يعني أنّ الأيام القادمة ستحمل المزيد من التصعيد على كل الساحات وتبقى الساحة الأبرز فيها هي الساحة الفلسطينية.
كما أنّ قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء التي وضعت منذ انتصار قوى المقاومة في حرب تموز 2006 في لبنان، والانتصار في الحرب الإرهابية على سورية، وصولاً إلى رفع وتيرة العمليات الفدائية في الداخل الفلسطيني جميعها تقول بأنّ محور المقاومة بقيادة إيران وسورية قد انتصر على جميع المحاولات والمعارك السياسية والثقافية والعسكرية التي حاولت الإدارة الأميركية وذراعها المسمى "إسرائيل"، وما حدث في أصفهان ليست إلا إحدى المحاولات الصهيوأميركية لجر إيران نحو حرب شاملة بعد خسارة المعارك.
إن فن الحروب والرد هو استراتيجية عقلانية لدى دول وقوى محور المقاومة، تجعل العدو يستهلك نفسه، ويتخبط بحثاً عن الوقت والمكان المناسب الذي سيأتي في الرد، والذي يعتبر في فلسفة القوة قيمة مضافة إلى عامل التأثير النفسي بالعدو، فالحرب كـ"الحرباء" تتغير باستراتيجيتها وأدواتها لخدمة أهدافها ورؤيتها، واستراتيجية المقاومة تقوم على الفعل المقاوم والصبر الاستراتيجي، والتي أعيت المحللين لقراءة تكتيكاتها العسكرية، ورسمت بتلك التكتيكات العسكرية فصلاً جديداً من "فنون الحرب" الذي وضعه "صن تزو" قبل مئات الأعوام لتصبح الإستراتيجية المقاومة العسكرية استراتيجية هجينة ومتطورة تداخلت فيها الوسائل والأدوات، فبينما كانت الولايات المتحدة تستخدم الاقتصاد لخدمة الحرب والضغط على الشعوب كان أحد أسلحة المقاومة للمواجهة سلاح ثقافة المقاومة الموجه ضدّها، حيث باتت الولايات المتحدة أمام أزمة عالمية، وكأنما فتحت صندوق باندورا، ولم تعد قادرة على كبحه، ومحاولتها لحرف بوصلة العدو من الكيان المؤقت باتجاه إيران باءت بالفشل أمام اليقظةو الصحوة الشعبية والعربية في دول محور المقاومة والإقليم.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع