لا يمكننا الحديث عن الأزمة التي تعصف بلبنان منذ تأسيسه وحتى اليوم دون الحديث عن التركيبة السياسية التي قام عليها البلد: تقسيمات طائفية، تحد من أحلام الجميع بالوصول إلى أي موقع يكون أهلاً له، إلا برضى آباء الطوائف، تنمية غير متوازنة، سلطة رجال المال على الدولة، وكالات حصرية تلزم اللبنانيين بالإختيار بين السيء والأسوء، وليس الأمر إذا ما كنت ترتدي أو تأكل أو تشرب أهم الماركات العالمية، ولكن الأهم أن تكون قادراً كفرد في الدولة أن تضمن قوت عائلتك اليومي والقدرة على الشراء.
ثمة حاجة حقيقية لتحرير لبنان من الإلتزامات الإحتكارية التي يتعثر بها وكأنها أسلاك شائكة تمتد في حقل من الألغام. فإن استطاع المواطن اللبناني حل عقدة اجتياز الأسلاك، فإنه لن يسلم من اللغم المختبئ تحتها. وحاجة لحماية المواطن في معيشته عبر تطور الخيارات المطروحة وصوابية التوجهات. اذ يجب أن يكون هناك دولة وحكومة قادرة على المبادرة لأنها تمتلك المعرفة والخبرة، وألا يكون خط سيرها "خبط عشواء" أو يرسمه الغرباء.
في النظام الإقتصادي الحر، لا يمكن حصر القوة المالية بيد أشحاص ومنع آخرين من الحصول على فرصهم بعدالة. صحيح أنه نظام جشع لا يمنع من ازدياد ثراء الأغنياء اعتماداً على إفقار الطبقات المتوسطة، والوغول في إفقار الطبقات الفقيرة، ولكن هناك ضوابط يفرضها النظام الضريبي في الدولة. اذ لا يمكن تسليم رقبة الدولة للشركات الخاصة المحتكرة، ويجب دخول الدولة على خط المبادرة. شهدنا ذلك مع حكومة الرئيس حسان دياب. اذ بدأت الدولة بأخذ المبادرات لمصلحة المواطن، الأمر الذي أزعج كثيرين. جاءت في الوقت الصعب ولم تحظ بدعم يجعلها قادرة على الإنطلاق بالدولة اللبنانية إلى مسار جديد.
القوانين موجودة في الدولة اللبنانية ويتم تجاوزها كل يوم، والتي نلمس إحياءها في عمل وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية، وعبر إيجاده المخارج العملية لتفعيل الوزارة خارج شروط صندوق النقد الدولي، الذي بات يعرف اليوم بدوره الخطير في إعادة تشكيل سياسات الدول.
يمكن لباقي أفراد الحكومة الحالية تجربة العمل على طريقة الوزير حمية وتحقيق تغيرات جذرية في طرق إدارة العمل. فما قام به من إعادة لإحياء الورش الفنية لمتعهدي الوزارة للقيام بعملها في تنظيف مجاري مياه الأمطار ابتداءاً من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021، هو عمل جدي. وقد وفّر قرار حمية على الوزارة أموالاً طائلة كانت تدفعها لمتعهدين خاصين، فيما يقبض متعهدوها رواتبهم وهم قابعون في مراكزهم. وفي كانون الثاني/ يناير من العام نفسه أعلن الوزير حمية أنه لن يبقى مرفأ بيروت رهينة للتجاذبات السياسية المحلية والإقليمية. وقال بوضوح: "أنا وزير ولكنني من الناس، وعندما قبلت أن أكون وزيراً هذا يعني أنني أحمل المسؤولية وأدرك مدى الفجوة".
يعني ذلك أن أي وزير في الدولة يستطيع القيام بمسؤولياته بما فيها مصلحة الدولة والناس، دون الرضوخ للشروط المذلة. اذ أكد على ضرورة إعادة بناء مرفأ بيروت واستقطاب وكالات بحرية جديدة بعيداً عن التطبيع؛ ولفت إلى أن "صندوق النقد الدولي ليس الحلّ الكامل للأزمة، ومن واجبنا إيجاد حلول أخرى". ومن ضمن الحلول الأخرى تأمين واردات للخزينة دون المس بجيوب الناس. واللافت أن كلامه هذا جاء قبل يوم من لقاء الفريق التقني في البنك الدولي، مؤكداً على حماية أصول الدولة، وفعل الجباية من الشركات الخاصة والأجنبية ولتأمين دخل إضافي للدولة. خلال أربعة أشهر من العمل تم خلالها طرح المناقصات وتوقيع العقود وتفعيل 11 رافعة من أصل 16 في مرفأ بيروت ما بين شهري 11/ 2020 و2/ 2022، واستجرار مبالغ بالقطع الأجنبي لخزينة الدولة اللبنانية، ضمن قاعدة "خدمة أفضل وبتكلفة أقل".
اذاً هناك خيارات، ومن يتابع نشاط الوزير حمية في مرفأ صيدا وطرابلس واستجلاب باصات النقل من فرنسا بوصفها هبة، يرى ذلك. خيارات يماطل فيها بعض وزراء الدولة الأساسيين والتي تتعلق بحياة الناس، ومنها وزارة الطاقة. اذ لم يبق سوى أن تضع الشركات الروسية ملفات تطوير مصفاة الزهراني وطرابلس في حضن الوزير وليد فياض ليقبل بعروضها، مدعياً أن المشكلة في الشركات الروسية التي لم توقّع الاتفاقيات بعد. ولكن يبدو أنه لن يأخذها بعين الإعتبار وأنه ذاهب إلى الشركات التي تم الإتفاق معها في العام 2013، وهي شركات خاصة، ومنها "لبنان لطاقة الرياح"، "هواء عكار ش.م.ل"، و"عكار المستدامة". وهو أمر محيّر، فهي تطلب 11.5 سنتاً للكيلو واط الساعي، وبالتالي زيادة التعرفة للكهرباء بشكل مخيف على المواطن.
لا يزال الوزير فياض يبحث في التمويل من القطاع الخاص وبالذات من البنك الدولي والجهات الأوروبية. كان هذا في حديثه على إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية. اذ تحدث عن استيراد زيت الفيول من العراق، ولكنه لم يتحدث عن العرض الروسي وإنما عن العروض التي جاءت من القطاع الخاص فقط، وبتمويل من البنك الدولي. وهو لا يزال ينتظر القرار السياسي لإقامة المشاريع التي يدعمها بشكل شخصي، والتي يقف ضدها رافضو زيادة العبء المالي على الشعب اللبناني.
المقارنة ما بين عمل الوزارتين السابقتين ليست مفاضلة بين الوزيرين بقدر ما هي مفاضلة ما بين ما يمكن أن تتولاه الدولة بشكل يتماشى مع مصلحة المواطن، والذي يجب تقدير مصلحته، وما بين مصلحة الدولة والإعتماد على مقدراتها أولاً والأخذ بالمبادرة، وبفرض شروطها وليس بفرض شروط الآخرين عليها. ولنأخذ على سبيل المثال مشروع ربط الشبكة الكهربائية ما بين الأردن وسوريا ولبنان من أجل استجرار الكهرباء من الأردن. فيما سيدفع لبنان ثمن الكيلو الواط المستجر من الأردن عبر الأراضي السورية حوالي 11 سنتاً، صرح وزير الكهرباء السوري غسان الزامل أن سوريا فرضت تعرفة أربعة أضعاف السعر العالمي لكل واحد ميغا واط من الكهرباء ينقل عبر الأراضي السورية. وقال: "نتيجة العقوبات لم نأخذ مال لكن أخذنا بدائل، وعالمياً سعر رسم المرور لكل واحد ميغا هو 2 دولار؛ وتابعنا ضغوطاتنا حتى استطعنا الحصول على 8 دولار لكل 1 ميغا؛ ونتيجة العقوبات سنأخذ هذا المال كحصة من الكهرباء". كما كشف عن مطالبة لبنانية وأردنية بعزل خط الكهرباء اللبناني عن السوري، إلا أن سوريا رفضت ذلك وتمسكت بربط الخط التزامني. إذن هكذا تحفظ الدول مصالحها ومصالح شعبها مع العلم أن الكهرباء المستجرة من الأردن بالكاد تكفي حاجة محافظة سورية صغيرة.
سوريا بذلك لم تكسب الكهرباء فقط، بل ربحت معركة شرسة في وجه قانون قيصر، ضمن معارك جديدة تخوضها في كل يوم. وبدل من الإنفتاح على سوريا ووقف العمل بمبدأ "النأي بالذات"، قامت وسائل إعلامية لبنانية معروفة الولاء خلال العام الماضي بشن هجوم على سوريا، واتهامها بتسهيل تهريب المازوت والبنزين المدعومين من لبنان إلى سوريا، مع أن لا دليل على ضلوع الدولة السورية بهكذا عمليات، وأن المسؤول عن تهريب واحتكار المادتين هم لبنانيون.
كانت مادة البنزين تباع في السوق الحر في سوريا بما يعادل 60 دولاراً أميركياً، بحسب مواطنين سوريين. واليوم بعد قرار رفع الدعم عن مادة البنزين في سوريا وفي لبنان، يعادل سعر صفيحة البنزين في لبنان 18 دولاراً، وهي ذاهبة نحو العشرين بحسب تصريحات نقابة أصحاب المحطات، في حين بات سعر صفيحة البنزين الحرّ في سوريا ما يعادل 12 دولاراً أميركياً. مع العلم أن متوسط دخل الموظف السوري يعادل اليوم في قيمته متوسط دخل الموظف اللبناني مقارنة بالدولار الأميركي. وفيما نحن نتجه نحو الأسوء، فهل يخبرنا أحدهم كيف تدار الدولة في لبنان؟
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU