بضعة أشهر تفصل اللبنانيين عن موعد الانتخابات النيابية، والأنظار تتطلع إلى الصناديق وهي تضيق بمغلّفات تحوي سجل اختبار وعي المُنتخِب لمصالحه، الخاصة بوصفه حراً بالفطرة، والعامة بوصفه اجتماعياً بالضرورة.
يعدّ الاختيار هو الأصل في قياس وعي الناخب، والذي يمتد بين حدّي الحُسن والقُبيح، ولكي تعمل الديمقراطية لا يكفي أن يشارك الإنسان في الاقتراع ليكون حراً، واعياً، وأن مجتمعه ديمقراطياً، بل في رصد خياراته بالاستناد على وقائع مؤثرة سبقت ممارسته الانتخاب.
في الوقائع، الخطوات التحضيرية للرأي العام اللبناني - منذ ما قبل تشرين 2019- لإحداث انقلاب في خياراته السياسية، عبر تنامي حال الاحتقان من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تزداد سوءًا، وما إن حصل الانفجار الشعبي حتى قفزت إلى الواجهة شعارات تشبه بيان رقم واحد لحركة انقلابية.
منذ البداية، عمل الانقلابيون على التلطي خلف الناس الموجوعة بآلامها المزمنة محاولين توجيه غضبهم نحو جهات محددة بوصفها مصدر عذاباتهم، لكن الوقائع كشفت عن تفسيرات مغايرة، فالفساد المسبّب لهذه الأوجاع الاجتماعية لم يكن مجرّد سلوك فردي وعبثي، بل على الأغلب ممنهجاً، جرى الإعداد له ورعايته منذ نهايات القرن الماضي، باحترافيّة دوليّة، وتمويل اقليمي، وأدوات محليّة.
للدلالة على ذلك، دعونا نذهب إلى بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، حيث شهدت انطلاقة الحريرية السياسية حدثان في العام 1993، حرب إسرائيلية في شهر تموز هي الأولى على حزب الله، تلاها مباشرة في شهر آب تعيين رياض سلامة حاكماً مطلقاً على البنك المركزي والمهندس الأوحد لسياسات لبنان المالية، وهنا من الطبيعي أن يطرح السؤال: ما هو مبرر الربط بين الحدثان، بدل أنّ يعدّ ذلك مجرّد صدفة زمنيّة؟
بموضوعية تامة، يمكن القول أن ما حصل في تموز عام 1993، شكّل انعطافة تاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي، بعد مشهديات اجتياح لبنان عام 1982، والتي أريد منها إلى جانب الخطيئة التي ارتكبها النظام المصري في كامب ديفيد، القضاء على المقاومة وثقافتها، كمقدمة نحو التطبيع. ولكن بعد عشر سنوات على الاجتياح، أدرك الإسرائيلي بأن استمرار استهداف جنوده في هذا البلد، ليس من فعل بقايا مجموعات قتالية، بل هو نتاج مقاومة لبنانية منظمة تزداد اقتداراً وتأثيراً.
وفيما بدأ هذا المسار يترسّخ متخذاً من هندساته القتالية وسيلة لتحرير الأرض المحتلة واستعادة السيادة، ما جعل العدو يستشعر جديّة التهديد الوجودي، راح أصحاب (مشروع السلام الموعود) الدفع باتجاه إطلاق مسار مناقض اتخذ من هندساته المالية وسيلة لإغراق البلاد بالفاسدين وبديون هائلة تطيح بسيادة لبنان ومدخرات اللبنانيين ما جعلهم يستشعرون تهديداً وجودياً أيضاً.
وحدها وقائع الحاضر، تنفي فكرة التلطي خلف نظرية المؤامرة في هذا التفسير، فليس من باب الصدفة ما نشهده من توجيه ممنهج يجري اعتماده من قبل جهات دولية وإقليمية وأدوات محليّة في التصويب على اعتبار مآسي اللبنانيين الاقتصادية والمعيشية المزمنة إنما سببها جهة واحدة، هي حزب الله.
وتكمل هذه الجهات خطواتها بحصار محكم لدفع لبنان نحو المزيد من التشظي مالياً، واقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وحتى قيمياً، فالمهم بنظرهم أن يتم محاصرة حزب الله وشيطنته من خلال تحميله مسؤولية كل الموبقات التي ارتكبت في لبنان وتبعاتها، بغية تشكيل رأي عام ضاغط يفقد الحزب لبنانياً البيئة الاجتماعية الحاضنة له، وخارجياً نموذجه في المقاومة والقدرة على صنع التغيير.
حتى السفارة الأمريكية في بيروت غدت غرفة عمليات ضخمة، تشرف على وسائل إعلامية معروفة، وتدير شبكات من منظمات المجتمع المدني، وتتولى التحكم بمنصات تحدد قيمة العملة الوطنية وكيفية انهيارها، وبات أركان السفارة مرجعية ملزمة لمسؤولين أساسيين في الوزارات والإدارات العامة، ينفذون التعليمات بدقة عالية.
إنّ أمر العمليات الأمريكية بات واضحاً، المزيد من الانهيار الاقتصادي والمالي، وإن لزم الأمر أمني، فلبنان الذي استطاع الحزب أن يرتقي به إلى مصاف الدول السيادية المحبط لمشروع الكيان الإسرائيلي الشرطي المؤدب لدول المنطقة، والمحبط لمسار الاستسلام والتطبيع ومشروع الشرق الأوسط الجديد، يجب أن يعود لبنان بأمر أمريكي إلى سيرته الأولى، قوي بضعفه.
أولى استثمارات الحصار والتحجيم هي الانتخابات النيابية القادمة، والتي إن حصلت، فهي بالتأكيد إنما تجري بأساليب غير ديمقراطية، بل بهمجية وغير إنسانية، بغية تحصيل أكثرية نيابية معادية لحزب الله، وسوف تشهد الفترة الزمنية المتبقية على موعد الانتخابات، خطوات صادمة للرأي العام، من تدهور مريع للعملة الوطنية وارتفاع فاحش للأسعار، وإعاقات مستمرة لأي حلول ممكنة، إلى جانب دور مريب للقضاء. وقد بلغ بهم الأمر مناشدة المغتربين عدم تحويل الأموال إلى أهلهم لأن ذلك ينفس الضغوطات، فعلى اللبنانيين أن يجوعوا كي ينزلوا إلى الطرقات.
والسؤال، ماذا سيفعل حزب الله؟
إن ما يحصل في لبنان هو حرب تدميرية شبيهة بالتي حصلت في سوريا مع فارق أن أدواتها غير عسكرية، ويبدو أن مهندسوا هذه الحرب وضعوا احتمالين لنتائجها، فإمّا أن تنجح في محاصرة الحزب وتحجيمه، وإن لم تحصل الانتخابات كما يحلمون، فتدمير لبنان وجعله أرض محروقة اقتصادياً واجتماعياً، حتى أمنياً، ما يضع الحزب وسط بيئة معادية ومضطربة.
صحيح أن حزب الله يراهن على العقلاء في المنطقة والعالم لكبح جماح هذا الفريق المتهور في خياراته، وإلّا فإنه سوف يضطر لتكرار ما فعله في سوريا، فمن يقرأ تجربة حزب الله جيداً، يدرك بأن هذا الكلام ليس من باب العنتريات، بل من فهم صحيح لمنظومته الاعتقادية والقيمية، فالإنجازات التي حققها لم تأت على طبق من فضة، بل دفع ثمنها دماء وعذابات غالية جدا،ً وحين يضعه الآخر في اختيار السلّة أو الذلة، دائماً ما يأتي الموقف، هيهات.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: د.احمد الشامي