يقول مارتن لوثر كينغ إن "الظلم أينما كان يهدد العدل في كل مكان"، فالعدالة يمكن أن تتحول إلى ظلم في كثير من الأحيان، هذا ما يحصل تحديداً في لبنان، فبعد أن كانت الأعين شاخصة نحو تحقيق العدالة لأهالي الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في جريمة مرفأ بيروت، بات عمل القضاء يهدد هذه العدالة ويسيس التحقيق ويحوره لمصالح سياسية دولية بحتة تهدد استقرار البلد. وهو ما يجعل المتابع يطرح الكثير من الأسئلة التي تدور حول عمل القاضي بيطار، ويخالف المحاكمة العادلة التي يضمنها الدستور اللبناني القانون الدولي، والذي وردت في معاهدات دولية عدة.
الشحنة الغامضة والدور الأميركي
أسئلة كثيرة طرحت حول عمل القاضي طارق بيطار، منذ وصول باخرة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت والاستماع إلى المسؤولين عن ذلك، الأخطر في الموضوع أن هناك تفاصيلًا غامضة حصلت حول شحنة الأمونيوم، لا يتم التطرق لها، وقد ذكرت بعض الروايات تفاصيل تشير إلى علم أميركي بالشحنة ودخولها على مرأى من اليونيفيل التي ترابط سفنها في المياه الإقليمية اللبنانية، فلماذا لا يتم السؤال عن الدور الأميركي في هذا التفجير؟ وهنا يأتي طرح مجموعة أسئلة حول الدور الأميركي، عن دخول وخروج مسؤولين أميركيين وسفراء إلى المرفأ قبل الانفجار في ظل وجود شحنات الأمونيوم، الم يفحص جهاز أمن السفارة الاميركية المرفأ قبل دخول دبلوماسيين وعسكريين أميركيين إليه؟ لماذا سمح جهاز أمن السفارة لهؤلاء بالدخول إلى المرفأ في ظل وجود هكذا "قنبلة موقوتة"؟
كذلك لماذا لا يتم سؤال اليونيفيل عن ذلك، وللتذكير ينطلق دور اليونيفيل في القضية مما قاله المدير العام السابق للجمارك بدري ضاهر الذي أبلغ المحقق العدلي أنّ قوة من اليونيفل أجرت مسحاً أمنياً لسفينة روسوس التي كانت تحمل شحنة نيترات الأمونيوم عام 2013، وأخضعتها للتفتيش لدى دخولها المياه الإقليمية اللبنانية، إلا أنها لم تعتبر نيترات الأمونيوم من المواد المحظورة، علماً بأنّ قوات اليونيفل تقوم بدوريات تفتيش في المياه الإقليمية تطبيقاً للقرار 1701 وللتثبت من عدم دخول أسلحة.
ويتقاطع كلام ضاهر، مع ما قاله المدير العام لمرفأ بيروت، حسن قريطم، في التحقيقات، من أن اليونيفيل كانت تعلم بوجود "مواد خطرة" على متن هذه السفينة، "حتى لو أن اليونيفيل أصدرت بيانا تنفي فيه هذا الأمر". لكن المستغرب أن كلام اليونيفيل يتضارب تماماً مع كلام المسؤولين اللبنانيين، ففي حين سارعت لتقول إن على وسائل الإعلام مراجعة السلطات اللبنانية، فإن المسؤولين اللبنانيين لم ينفوا أي مسؤولية لليونيفيل، خاصةً أمام ما ورد في إفادات ضاهر وقريطم.
ويأتي الحديث عن دور اليونيفيل، كونها لها يد في مراقبة المياه اللبنانية، فعملياً، تتم مراقبة المياه الاقليمية اللبنانية من قبل القوات البحرية اللبنانية والقوات البحرية التابعة لليونيفيل. وهنا يطرح السؤال بعد أن نفت اليونيفيل أي دور لها، وعلمها بما حملته سفينة الأمونيوم، هل يمكن أن يكون هناك معابر بحرية غير شرعية تمر من خلالها سفن وشحنات؟ وإذا كانت اليونيفيل فتشت الباخرة فلماذا تم اعتبار الأمونيوم مواد غير خطرة؟
لا ينتهي الكلام هنا بل يتقاطع مع الرواية التي تتحدث عن وجود شبهات كبيرة تحوم حول ذهاب الشحنة إلى الإرهابيين في سوريا على غرار باخرة لطف الله 2، وذلك في خضم الحرب السورية والدعم الأميركي اللامتناهي للإرهابيين بالسلاح هناك من أجل إسقاط الدولة السورية وتدمير بنيتها.
أسئلة عن دور القضاء النزيه
هذه الأسئلة كلها مشروعة أمام ما يقوم به بيطار من خلال التعامل بمعايير مزدوجة واستنسابية في التحقيق، ما يحصل في ملف القاضي بيطار، يؤكد المعايير المزدوجة التي يستخدمها المجتمع الدولي في تطبيق القانون الدولي والتغاضي عن المعاهدات الدولية من أجل المصالح السياسية، لقد بات أمر القاضي بيطار مريباً خاصةً أن هناك فئة كبيرة جداً من الشعب اللبناني ترفض عمله، وبالتالي لا يمكن الاستمرار والتعنت في بقاء بيطار أو في استمرار عمله كما هو عليه، فالسلطة القضائية التي عليها أن تطبق حكم القانون الذي يعبر عن الشعب بأكمله، ما هو نفعها إن كانت ستصدر أحكاماً لا تمثل هذا الشعب، والأكثر من ذلك أن المجتمع الدولي متمثلاً بواشنطن والذي يغطي بيطار ويحميه يجب أن يتوقف عن الكيل بمكيالين والتعامل بمعايير مزدوجة من أجل مصالحه السياسية الواضحة في هذا الملف.
لقد نصت معاهدات دولية عدة تتعلق بالمحاكمات العادلة أن على كل حكومة التبعة والمسؤولية في تقديم المسؤولين عن ارتكاب الجرائم إلى العدالة أمام محاكم مستقلة ونزيهة ومختصة، على نحو يحترم المعايير الدولية للنزاهة، وهنا تطرح بقوة مسألة المحاكمة على جريمة مرفأ بيروت، ومع هذا، ومهما كانت الجريمة، فهي لا تخدم العدالة، سواء بالنسبة للمتهم أو للمجني عليه أو للجمهور عامة، عندما تسمح للجور بأن يشوب محاكماتها.
من المعروف دولياً ومحلياً أن مبادئ المحاكمة العادلة تقوم على رفض الإجراءات التعسفية غير المنصفة والتي تقوض مفهومي الحرية والعدالة، وقد ركزت المعاهدات الدولية على ضمانات الوقاية من التوقيف التعسفي والبطء الشديد في المحاكمة، وقد وردت متطلبات المحاكمة العادلة في المواد (7)، (8)، (9)، (10)، (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، م/14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية وفي القوانين الإقليمية والمحلية، حيث كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه من دون أي تفرقة.
لقد وضعت هذه المعايير لكي تطبق على جميع النظم القضائية في العالم، وعلى نحو يراعي التنوع الهائل في الإجراءات القانونية، وأرست الحد الأدنى من الضمانات التي ينبغي أن توفرها جميع النظم لضمان العدالة واحترام حكم القانون، واحترام الحق في إجراءات نزيهة للمقاضاة الجنائية. وتنطبق هذه الضمانات على التحقيقات وعلى إجراءات القبض والاحتجاز، كما تنطبق على جميع الإجراءات السابقة على المحاكمة، وأثناء المحاكمة، ولدى صدور الأحكام واستئنافها، وعند فرض العقوبات. وتمثل هذه المعايير الدولية للمحاكمة العادلة ضربا من ضروب إجماع الرأي الدولي بشأن المعايير الإلزامية لتقييم الطريقة التي تعامل بها الحكومات من يشتبه بارتكابهم الجرائم، وهنا يأتي السؤال لماذا لا تتعامل واشنطن التي تدعم بيطار بهذه المعايير، التي لطالما تبجحت بها ونادت بها، وهذا ما يزيد من الارتياب والريب في هذا الملف، الذي باتت تستخدمه الإدارة الأميركية لمصالحها السياسية في لبنان، خاصةً على أبواب الانتخابات، والمآرب المعروفة لهذا الأمر من أجل تغيير موازين القوى في لبنان.