في الذكرى الثانية لعملية "طوفان الأقصى"، تبرز جبهة الإسناد اليمنية بوصفها أحد أهم مظاهر التحول الاستراتيجي في مشهد الصراع العربي-الإسرائيلي. فمنذ انخراط صنعاء المباشر في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته، لم تعد الحرب على غزة مجرد مواجهة محلية بين المقاومة وكيان الاحتلال، بل تحولت إلى صراع إقليمي مفتوح يُعيد رسم توازنات القوة في الشرق الأوسط.
ورغم أن الحرب الإسرائيلية على غزة دخلت طور الإبادة الممنهجة، مستهدفة المدنيين والبنية التحتية في القطاع بهدف كسر إرادة المقاومة خلال عامين كاملين، فإن جبهة الإسناد اليمنية قدّمت نموذجاً مختلفاً للمواجهة، تجاوز الخطاب التضامني إلى الفعل العسكري المنظّم. فالهجمات المتواصلة التي نفذتها صنعاء ضد الملاحة المرتبطة بالاحتلال في البحرين الأحمر والعربي، وضد أهداف داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أثبتت أن الدعم الشعبي والسياسي يمكن أن يتجسّد في أدوات ردع فعلية، حتى من خارج الجغرافيا الفلسطينية.
هذا التحول لم يكن طارئاً ولا رمزياً، بل جاء ضمن رؤية يمنية تعتبر أن معركة غزة ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل جزء من صراع أشمل ضد منظومة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية. لذلك، أعلنت صنعاء منذ البداية أن استمرار عملياتها العسكرية رهن بطلب من المقاومة الفلسطينية، واضعة قرار وقف إطلاق النار ضمن القرار الأشمل للمقاومة في المنطقة وفلسطين تحديداً لا ضمن ضغوط دولية. هذه المقاربة منحت اليمن موقعاً استراتيجياً جديداً، بوصفه فاعلاً مستقلاً يمتلك قراره السيادي ويؤثر في مسار الحرب الإقليمية.
العمليات اليمنية لم تقتصر على الجانب الرمزي أو الإعلامي، بل أفرزت نتائج ميدانية ملموسة. فتعطيل ميناء إيلات بالكامل، وفرض الحظر الجوي على مطار بن غوريون منذ أيار/مايو الماضي، وإجبار شركات طيران عالمية على تجنب أجواء فلسطين المحتلة، كلّها مؤشرات على نجاح صنعاء في فرض معادلة ردع بحرية وجوية غير مسبوقة. كما أن اتساع نطاق الضربات ليشمل مطار رامون، وضرب السياحة في إيلات، يعكس تطوراً تقنياً واستراتيجياً يربط بين القدرة العسكرية والإرادة السياسية.
في المقابل، شنّت الولايات المتحدة وكيان الاحتلال أكثر من 2800 غارة على الأراضي اليمنية خلال العامين الماضيين، مستهدفة الموانئ والمطارات ومصانع الإسمنت ومحطات الطاقة، في محاولة لإضعاف هذه الجبهة والحد من فاعليتها. غير أن هذا العدوان لم ينجح في شلّ قدرات صنعاء أو كسر إرادتها، بل دفعها إلى تسريع تطوير منظوماتها الصاروخية والطائرات المسيّرة. ومع دخول الصواريخ الفرط صوتية الانشطارية إلى الخدمة، بات اليمن يمتلك سلاح ردع استراتيجي يُحسب له حساب في المعادلة الإقليمية.
إن ما جرى في البحر الأحمر ليس مجرد استهداف لخطوط التجارة المرتبطة بالكيان، بل هو إعادة تعريف لمفهوم السيادة البحرية في المنطقة. فصنعاء تفرض واقعاً جديداً على الممرات الدولية، حيث لم تعد السفن المرتبطة بالاحتلال قادرة على المرور من دون ثمن. بهذا المعنى، تحوّلت جبهة الإسناد من جبهة تضامن إلى جبهة تأثير، ومن موقع الدفاع إلى موقع فرض الشروط.
تتجلى أهمية هذا الدور في لحظة سياسية تتكثف فيها الضغوط الدولية لفرض تسوية على حساب الفلسطينيين. ففي حين تسعى واشنطن إلى إعادة إنتاج مبادرة تسوية عبر "خطة ترامب المعدلة" وقد أنجز الاتفاق على المرحلة الأولى منها، تذكر صنعاء أن الجبهة اليمنية مرتبطة بقرار المقاومة الفلسطينية في السلم أو استئنام الأعمال القتالية. وهي صيغة ردع تكسر احتكار القوة الذي تمتعت به واشنطن وتل أبيب لعقود.
تشكل جبهة الإسناد اليمنية امتداداً ميدانياً للمقاومة الفلسطينية، وتعبيراً عن تبلور وعي جديد لدى شعوب المنطقة بأن زمن الحياد قد انتهى. فبينما تُمعن آلة الحرب الإسرائيلية في الإبادة، يعلن اليمن -من موقعه الجغرافي الإستراتيجي- أن الكلفة الاقتصادية والعسكرية للاحتلال لن تبقى محصورة داخل حدود غزة.
لقد فتحت جبهة الإسناد مرحلة جديدة من الصراع، قوامها الردع بالممكن والقدرة على تغيير قواعد اللعبة. ومع كل عملية جديدة، يتأكد أن القضية الفلسطينية لم تعد معزولة في وجه الإبادة، بل باتت تمتلك عمقاً إقليمياً يتقدمه اليمن، الذي أعاد تعريف الموقف العربي من المقاومة، من التعاطف إلى الفعل، ومن الخطاب إلى التأثير.
الكاتب: غرفة التحرير