تُقدَّم الخطة التي قدمها الرئيس الأميركي بوصفها تصوراً دولياً لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، لكنها في جوهرها امتداد لنموذج الوصاية الاستعمارية المعاصرة، التي تُغلِّف التدخل الخارجي بأطر بيروقراطية ووعود إعادة الإعمار، مع تغييب شبه كامل للحق الفلسطيني في تقرير المصير. ما يُطرح ليس انتقالاً لحالة سياسية جديدة، بل إعادة ترتيب للهيمنة بصيغة متعددة الأطراف، تُمنح فيها إسرائيل والدول الكبرى سلطة الإشراف والقرار، بينما يُختزل الفلسطينيون إلى وظيفة تنفيذية ثانوية.
أخطر ما في هذه الخطة أنها لا تنطلق من الاعتراف بالشعب الفلسطيني كصاحب السيادة على أرضه، بل تفترض أن غزة ملف إداري–أمني يحتاج إلى هندسة دولية، مع تأكيد رئيس الاحتلال بنيامين نتنياهو رفضه القاطع اقامة او الاعتراف بدولة فلسطينية. البنية الهرمية المقترحة، المستوحاة من نموذج كوسوفو، تضع القيادة الفعلية بيد شخصية أجنبية مثل توني بلير، يتولى رسم الاستراتيجية والتنسيق الأمني وتوجيه إعادة الإعمار. تحت هذه الطبقة تتفرع سكرتاريا عامة وهيئات تنفيذية من خبراء، تُعرّى مسبقاً من الانتماء الوطني وتُفرَض عليها مهمة إدارة الحياة اليومية دون سلطة سياسية أو تمثيل شعبي.
بهذا التصميم، تُختزل السلطة الفلسطينية إلى دور بروتوكولي يمنح الشرعية لمعادلة تفاوضية تجمع إسرائيل والولايات المتحدة ودولاً عربية. تصبح السلطة أشبه بختم إداري يُستخدم لتجميل اتفاق لا يملك الفلسطينيون فيه قراراً سيادياً.
الشق الأمني في الخطة يكشف عمق الذهنية الاستعمارية. إقامة قوة استقرار دولية بمهام الجيش المحلي، ووحدات لحماية الشخصيات وشرطة تتدرّب في الخارج، ليست سوى إعادة إنتاج لنموذج الإدارات الدولية التي تتعامل مع الشعوب كملف ضبط أمني. صلاحيات هذه القوة تشمل حماية المعابر وتنسيق الأمن مع الاحتلال في مناطق التماس، بما يعني استمرار تحكّم إسرائيل في الجغرافيا والسيادة والتنقل، حتى لو جرى تغليف ذلك بشعارات التنسيق الدولي.
من ناحية التمويل، تبرز ثغرة مركزية: لا يوجد وضوح حول مصدر الموازنات الضخمة المطلوبة للإعمار والتشغيل. يُطرح نموذج قائم على تعهدات غامضة من دول تنتظر ضمانات سياسية وإصلاحات بنيوية، بينما تتراكم التحديات من جهة أخرى: تشغيل عشرات آلاف الموظفين ممن عملوا سابقاً مع الحكومة السابقة أو في مؤسسات مدنية تعتمد عليها الحياة اليومية، وجمع الأنقاض، وإعادة تشغيل شبكات المياه والكهرباء والصحة. غياب التخطيط المالي الجاد يُحوّل غزة إلى مساحة اختبار أخرى للفساد والسمسرة وتضارب المصالح.
الخطة تتجاهل أيضاً طبيعة البُنى الاجتماعية والسياسية التي نشأت في غزة خلال سنوات الحصار والحرب. القوى المحلية المسلحة، العائلات النافذة، الاقتصاد الموازي، والفصائل السياسية ليست عناصر يمكن شطبها أو تجاوزها بقرار دولي. أي محاولة لإنشاء إدارة بديلة دون توافق وطني حقيقي ستُنتج فراغاً خطيراً أو ازدواجية سلطة، بما يفتح الباب مجدداً أمام الفوضى أو التفكك أو إعادة إنتاج نماذج أمراء الحرب وشبكات المصالح.
على المستوى الاستراتيجي، يَظهر أن الهدف غير المعلن للخطة هو تقليص مسؤولية إسرائيل المباشرة عن القطاع مع ضمان استمرار السيطرة الأمنية ومنع أي قوة فلسطينية من تطوير قدرات عسكرية أو سياسية. هذه الصيغة تسمح بتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل واستعادة جزء من مكانتها الدبلوماسية، لكنها تُبقي الاحتلال في موقع المراقب المتحكم، وتُحوّل إعادة الإعمار إلى أداة ضبط لا إلى مسار تحرر. بذلك، لا يُنظر إلى غزة كأرض محتلة بل كمنطقة متنازع عليها تحتاج إلى رعاية متعددة الجنسيات تُدار بمنطق "الاستقرار" بديلاً عن العدالة.
الثغرة الأخطر أن الخطة تُشرعن الوجود الدولي والإقليمي بوصفه بديلاً عن الاعتراف بالتمثيل السياسي الفلسطيني. بدلاً من تمكين الشعب من إدارة شؤونه عبر مؤسساته الوطنية المنتخبة، يُجري نقل القرار إلى غرف مغلقة تضم واشنطن وتل أبيب وعواصم إقليمية. إعادة الإعمار تُستثمر هنا كوسيلة لانتزاع التنازلات لا كاستحقاق سيادي وإنساني.
لا يمكن النظر إلى هذه الخطة إلا كمشرع يتجاوز مبدأ تقرير المصير ويربط مصير غزة بوصاية دولية أو أمنية وهو تعميق للأزمة لا حلاً لها. الإعمار خارج إطار السيادة يعيد تشكيل الاحتلال بأدوات مدنية، ويحوّل الفلسطينيين إلى متلقين لإدارة محتلة لا إلى شركاء في صناعة مستقبلهم. ما يُطرح ليس خطة لليوم التالي للحرب، بل يومٌ تالٍ لشرعنة الهيمنة وإعادة تدويرها بأسماء جديدة وواجهات دولية.