خرج أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، بدعوة علنية للسعودية "فتح صفحة جديدة" مع المقاومة على قاعدة واضحة وصادمة للبعض: "إسرائيل هي الخطر، وليست المقاومة." هذه الدعوة لا تُقرأ بمعزل عن الزلزال الإقليمي الذي أحدثته الضربات الإسرائيلية للمنطقة لا سيما استهداف العاصمة القطرية الدوحة، ولا عن حركة الدبلوماسية المتسارعة التي شهدتها المنطقة منذ أيام: زيارات أمنية رفيعة، صفقات دفاعية كبرى، واجتماعات طارئة للخليج والعالم العربي. لهذا فإن قراءة مبادرة الأمين العام من دون ربطها بهذه الوقائع ستفقدها بُعدها الإستراتيجي.
ما الذي تغيّر؟
خلال الأيام القليلة الماضية تتابعت أحداث هزّت ثقة دولٍ إقليميةٍ بعقيدة الحماية الأميركية لدول الخليج: الضربة التي طالت قطر عطّلت بعض قواعد اللعبة، وأجبرت دولاً في الخليج ومصر كذلك على إعادة حساباتها الأمنية والسياسية والتفكير جدياً بمصلحة الدول العربية بإضعاف المقاومة ومحورها في ظل التوحش والتوسع الإسرائيلي، ومشروع "إسرائيل الكبرى" الذي تحدث عنه رئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو، بل ثمة معلومات بأن بعض الساسة العرب يعتقدون أن محور المقاومة يشكل خط الدفاع الأول في مواجهة إسرائيل إذا انهار فسيأتي الدور على كافة الدول العربية حتى تلك المطبّعة أو التي تربطها اتفاقيات سلام مع الكيان المؤقت أو اتفاقيات أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية. هذه الصدمة دفعت دولاً إلى "تسريع" ترتيبات دفاعية وعسكرية، من أبرزها توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين السعودية وباكستان التي طُرحت كخط دفاعي جاد في مواجهة تهديداتٍ جسيمة. كما ظهرت دعوات مصرية لإعادة إحياء شكل من القوة العربية المشتركة تُشبه هيكلية "ناتو عربي" لحماية الدول من هجماتٍ مماثلة. كل هذا الإطار يُفسر أن مبادرة الشيخ قاسم جاءت في توقيت مناسب وحساس.
لقاء لاريجاني مع محمد بن سلمان: مؤشر سياسي مهم
زيارة أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى الرياض ولقاؤه بولي العهد وقيادات سعودية هي إشارة عملية إلى تهيّؤٍ لإدارة خطوط اتصال مع طهران ووساطات إقليمية. هذه الزيارة لا تُقاس بكلامٍ بروتوكولي فحسب، بل بكونها قناة نقل رسائل وتطمينات وتنسيق أمني، وقد سبقت أو ترافقت مع اتصالاتٍ ومشاورات كان من أهدافها خفض منسوب المواجهة وتفادي تصاعد لا يمكن احتواؤه في المنطقة.
لاريجاني لفت إلى أن المشاورات في الرياض ناقشت للمرة الأولى "التعاون الدفاعي بين البلدين، والتعاون الإقليمي، والتدابير التي يمكن اتخاذها لتحقيق الاستقرار في المنطقة". وردًا على سؤال عما إذا كان هناك تغيير في الرؤية والاستراتيجية لدى الدول العربية بعد أحداث قطر، أوضح لاريجاني: "نعم، بالطبع، كانت لدى الأصدقاء السعوديين بالفعل رؤية واضحة نسبياً لهذه التطورات، لكن الآن أصبحت أكثر وضوحاً بكثير، مما يعني أن مختلف دول المنطقة تشعر أن المسار الذي اعتقدت إيران سابقاً بأن عنصراً مغامراً في المنطقة (إسرائيل) يمنع ترسيخ الاستقرار في المنطقة قد اتخذ شكلاً أكثر موضوعية".
قراءة استراتيجية في مبادرة الشيخ قاسم
1. يعمل الحزب وإيران على تصحيح البوصلة نحو العدو الحقيقي للأمة وتغيير محور الخطر بأن يُنظر إلى "المقاومة" كضامنٍ للأمن من عدوان إسرائيلي محتمل على لبنان والمنطقة أيضاً. هذه إعادة تأطير ضرورية لخلق أجواء ومساحات سياسية للحوار.
2. الحفاظ على سلاح المقاومة كعنصر ردع من خلال التأكيد على أن السلاح "موجّه للكيان الإسرائيلي حصراً لا إلى السعودية ولا إلى أي دولة عربية" بما يخدم تهدئة المخاوف الإقليمية، وقطع حجّة نزع السلاح التي يسوّقها الأميركي والخارج.
3. مواجهة مشروع "إسرائيل الكبرى" فبعد استهداف إسرائيل لكل من قطر وتونس وسوريا ولبنان وإيران واليمن، أصبح أمام القوى الإقليمية خياران: مواجهة الخطر أو انتظار أن يصل الدور إليها. وهذا ما أشار إليه بوضوح الشيخ قاسم في خطابه.
ما هي مصلحة السعودية من التفاهم مع حزب الله؟
-تأمين الهدوء والاستقرار في المنطقة والتركيز على مشروع 2030 ومدينة نيوم حلم محمد بن سلمان، لا سيما بعد تهديدات واضحة أطلقها قائد أنصار الله في اليمن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي ضد الرياض، ورسائل وصلت الى القادة السعوديين، بأن مشهد منشأة آرامكو المحترق قد يتكرر إذا واصلت السعودية ضغطها المتزايد على الحزب وسلاحه في لبنان.
-تفادي فتح جبهات جديدة وواسعة تهدد الاستقرار الإقليمي، والتفاهم يقلّل من احتمال انزلاقٍ واسع يُرى في العواصم الخليجية على أنه تهديد مباشر.
-من مصلحة السعودية خفض مستوى المواجهة والتوتر في لبنان أو بعبارة أخرى تنظيم الاشتباك مع تهدئة نسبية، في لحظة تعتقد فيها الرياض أن الحزب ربما بات أضعف ويمكنها أن توسّع نفوذها داخل الساحة اللبنانية.
-كسب ورقة سياسية من خلال التفاهم مع حزب فاعل في لبنان يعطي الرياض نفوذاً سياسياً في مفاصل القرار اللبناني.
ما هي مصلحة حزب الله من التفاهم؟
-تخفيف جزء من الضغوط السياسية والاقتصادية على لبنان ولا سيما تلك التي تستهدف الحزب وسلاح المقاومة، بدل أن يكون الضغط أميركياً وسعودياً مستمراً على السلاح، رغم "تكويعة" الحكومة في 5 أيلول نتيجة موازين قوى فرضها الثنائي الوطني على غير صعيد.
- ضمان إبقاء سلاح المقاومة مبرّراً ضمن منطق استراتيجية الدفاع الوطني والإقليمي كذلك.
-كسب "غطاء" خليجي وإقليمي في مواجهة محاولات عزلته، فالحوار مع السعودية والعرب يريح الحزب ولبنان.
هل يمكن ترميم الثقة مع السعودية؟
لا ثقة مطلقة تُبنى بين خصوم لعقود لا سيما مع السعودية بعد ما ارتكبته من فظائع في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها، والتعاون مع الأمريكي والإسرائيلي وحثّها على القضاء على المقاومتين في لبنان وغزة، لذلك، لا بد من ضمانات واضحة إن حصل الحوار بين الطرفين، ومنها اعتماد آليات لخفض التوتر والتصعيد السياسي، ومن المستبعد وقف التصعيد الإعلامي رغم أنه للمرة الأولى قناة "الحدث" السعودية وصفت الشيخ نعيم قاسم بأنه زعيم حزب الله وليس زعيم "ميليشيا". كما أن الأميركيين قد يسعون لإجهاض أي تفاهم إقليمي يخرج عن سيطرتهم؛ بالطبع السعودية لن تخرج عن العباءة والأجندة و"الحماية" الأميركية، إلا أنها اكتشفت أنها كذبة كبيرة مرتين، الأولى في حربها على اليمن حيث لم تقدّم أمريكا المعونة والمساعدة العسكرية الكافية وفق الرياض، والثانية عند استهداف إسرائيل لقطر وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي وتستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة.
إن دعوة الشيخ نعيم قاسم لم تأتِ من فراغ، بل هي رسالة استراتيجية عنوانها "الوحدة ضِد العدو المشترك إسرائيل"، وحتمية إدارة الخلافات الداخلية بطريقة تحفظ الأمن القومي للدول أولاً. الكرة في ملعب السعودية الآن، وهي أمام اختبار حقيقي إما أن تبقى على سياستها السابقة بالتخريب والتدخل في الساحة اللبنانية والتصويب على سلاح المقاومة، وهذا الأمر يُضعف كل القوى العربية ويصبّ في مصلحة إسرائيل، أو أن تختار سياسة "خفض التوتر" و "تنظيم الاشتباك" مع الحزب وإيران ومحور المقاومة، التي قد تمنحها ورقة نفوذ وتفاوض في الإقليم وتخفف ضغوط الاستهداف الإسرائيلي.
في كل الأحوال، التطورات الأخيرة أي زيارة لاريجاني الى الرياض، الاتفاق الدفاعي مع باكستان، قمة الدوحة وردود الفعل التركية والمصرية جعلت من مبادرة الشيخ قاسم تأتي في إطار قراءة معمقة، وموقف حكيم وقوي، وفي إطار سياسة اليد الممدودة التي ينتهجها حزب الله مع الداخل والخارج خصوصاً مع الدول العربية، بالإضافة إلى أنها ورقة منطقية قابلة للنقاش على طاولة القرار الإقليمي إن توفرت نوايا حسنة حقيقية في الرياض، والقدرة على ضبط نتائجها، ومواجهة محاولات العرقلة الأميركية وأدواتها في لبنان والمنطقة.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.
mshamass110@yahoo.com