افتتحت محكمة العدل الدولية بقرارها بشأن الدعوى التي قدمتها جنوب افريقيا، مساراً قانونياً طويلاً يكون فيه كيان الاحتلال منشغلاً، للمرة الأولى في تاريخه، بتعديل سرديته التي شُوّهت أمام مرأى العالم. وعلى الرغم من أن القرار لم يرق لمستوى الإدانة المباشرة للكيان، إلا انه حمل جملة من الدلالات والتداعيات أثارت سخط مسؤولي الاحتلال ودفعت وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، لمهاجمة المحكمة بزعم أن "عملها لا يهدف لتحقيق العدالة".
كانت عيون العالم على لاهاي. حيث أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها بشأن التدابير المؤقتة في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية.
وافقت المحكمة على بعض البنود التي طلبتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، لكنها رفضت الزام الأخيرة بوقف عملياتها العسكرية في القطاع. في حين قرر غالبية القضاة السبعة عشر أن على إسرائيل اتخاذ خطوات للحد من المس بالفلسطينيين، وتقديم تقرير في غضون شهر عن جميع الإجراءات المتخذة استجابة لأمر المحكمة. كما رفضت المحكمة طلب إسرائيل بإسقاط القضية، مما يعني أنها قد تستمر لسنوات.
لم يُجب قرار المحكمة عن سؤال ما اذا كانت إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية ام لا. لكنها رأت "بعض الأفعال والإغفالات التي تقول جنوب أفريقيا أن إسرائيل ارتكبتها في غزة يبدو أنها يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية". وبالتالي، فإن "الوقائع والظروف المذكورة كافية لاستنتاج أن بعض الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا على الأقل والتي تلتمس الحماية بشأنها معقولة". وهذا يسمح للقضية بالمضي قدماً في اتخاذ قرار بشأن الأسس الموضوعية. كما أنه يوجه إنذاراً إلى دول أخرى - أي تلك التي تقدم الدعم لإسرائيل. وللمفارقة فإن اتفاقية الإبادة الجماعية التي أُعلن عنها عام 1946 جاءت بناءً على طلب اليهود بما يتعلق بالهولوكست، وهم بعد حوالي 60 عاماً يُقاضَون بها.
تتمتع "التدابير المؤقتة" بأثر ملزم وبالتالي تخلق التزامات قانونية دولية لأي طرف توجه إليه التدابير المؤقتة"، وفي هذه الحالة هي إسرائيل حصراً. وعلى الرغم من ذلك، تستند التدابير إلى الالتزامات القائمة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تفرض العقاب ليس فقط على أعمال الإبادة الجماعية بل على الأطراف المتواطئة أيضاً.
وذكرت وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، أنه "إذا وجدت محكمة العدل الدولية وقوع إبادة جماعية، فإن الدول التي ساعدت وحرّضت عليها ستُعتبر طرفاً في ارتكاب الجريمة بموجب الاتفاقية"، وهذا ما يجعل الولايات المتحدة أول المتورطين.
ويمثل حكم محكمة العدل الدولية خطوة هامة في اتجاه إعادة ترسيخ مصداقية المؤسسات الدولية وتطبيق القانون الإنساني الدولي. وقد أحبطت جهود متعددة سابقة لمحاسبة إسرائيل على الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني من قبل حلفائها في الغرب، مما أثار استياء الكثيرين في المجتمع الدولي. وبعيدا عن الآثار القانونية، فإن الآثار الجيوسياسية المترتبة على رفع جنوب أفريقيا القضية إلى المحكمة الدولية كبيرة. وتقول مديرة برامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، تقى نصيرات، أن قرار المحكمة الأولي يضع حداً لادعاء إدارة بايدن بأن القضية "لا أساس لها"، ويجب أن يجبر الولايات المتحدة على التصالح مع حقيقة أن دعمها لإسرائيل ليس مرفوضاً من قبل الكثير من المجتمع الدولي فحسب، بل إنها تخضع الآن للدفاع عن نفسها ضد اتهامات بدعم إبادة جماعية محتملة في غزة.
إن تصويت المحكمة بخمسة عشر صوتاً مقابل اثنين على جميع الأحكام تقريباً يدل على مدى اتحاد الكثير من العالم في نظرته إلى كيفية إدارة إسرائيل لعملياتها العسكرية في غزة. وهذا من شأنه أن يجعل الجميع في الحكومة الأميركية، التي تدعم تطرف الكيان، يأخذون على محمل الجد أي دعم دبلوماسي واقتصادي وعسكري إضافي تعتزم تقديمه مع استمرار إسرائيل في حربها على غزة.
من جهته، رأى عضو المكتب السياسي في حركة "حماس"، عزت الرشق، ان "قبول محكمة العدل لقضية الإبادة الجماعية التي تقدمت بها جنوب أفريقيا، ورفض المحكمة طلب إسرائيل بردها، خطوة مهمة على طريق العدالة لشعبنا، وهو يعني بدء مسار واجراءات محاكمة إسرائيل على جرائمها، وعدم امكانية إفلاتها من المساءلة". مؤكداً على ان ذلك "يُعَدُّ اعترافاً من المحكمة بحجم الجريمة التي يرتكبها الاحتلال الإرهابي في القطاع".
الكاتب: غرفة التحرير