لحظة سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون اول / ديسمبر 2024 الذي شكل بداية مرحلة جديدة في هذا البلد تداعى صناع القرار في دول الخليج لا سيما الامارات العربية المتحدة التي أصابها التوتر والقلق من تنامي حكم الإسلام "الراديكالي" و تمدد مشروع الاخوان المسلمين في سوريا والمنطقة، وهي التي وضعت الخطط وبنت الآمال على علاقات واسعة سياسية واقتصادية مع النظام السوري السابق، فيما فشلت محاولات رئيس الإدارة الانتقالية في دمشق احمد الشرع في احتوائها أو تطبيع العلاقات معها رغم الضغوط الأميركية على دول المنطقة، وعلى وزراء خارجية أوروبا للذهاب الى دمشق والاعتراف بالحكم الجديد، وبدا واضحاً للجميع عدم رغبة أبو ظبي في إعادة المياه الى مجاريها مع دمشق والتريث حتى انجلاء المشهد الضبابي هناك، رغم الاتصالات العلنية وتبريك الامارات للشرع ظاهرياً بتوليه الحكم في سوريا.
طحنون يجند ضباطاً علويين للسيطرة على الساحل السوري
التريث الاماراتي لم يبق طويلا بل قررت أبو ظبي التحرك السريع لزعزعة الاستقرار في سوريا، و لمنع ترسيخ حكم الاخوان في دمشق، وتمدد المشروع التركي في المنطقة، وقرر رئيس الاستخبارات الاماراتي طحنون بن زايد تجنيد عدد من الضباط العلويين في الجيش السابق لتنفيذ انقلاب عسكري ضد حكومة الشرع في الساحل السوري، وهي ارض خصبة يمكن تطويعها في أي نشاط عسكري ضد النظام وذلك نتيجة القمع وانتهاك حقوق العلويين والأقليات التي طالت المسيحيين والدروز أيضاً من قبل ميليشيات النظام والجماعات التكفيرية التي تتحين الفرصة لتنفيذ عملية انتقام من فلول النظام والطائفة العلوية على وجه الخصوص التي شكّلت ركيزة للنظام السابق وبيئته الحاضنة مدة عقود من الزمن.
غرفة عمليات إماراتية في بيروت لزعزعة دمشق
قبل شهرين بدأت المخابرات الإماراتية تتواصل مع ضباط علويين من الساحل السوري لتأطيرهم ضمن قوة عسكرية بهدف السيطرة على المدن الرئيسية في الساحل السوري اللاذقية طرطوس بانياس جبلة، وإنشاء كانتون علوي تستطيع الامارات من خلاله بسط نفوذها والحيازة على حصة من الكعكة السورية (الغاز والنفط في المتوسط)، وفرض شروطها على الطاولة امام الشرع وملهمه الرئيس التركي رجب اردوغان.
تكثفت الاجتماعات قبل أسبوعين من أحداث الساحل السوري بين فريق من الاستخبارات الاماراتية برعاية وإدارة مباشرة من مستشار الامن القومي طحنون بن زايد وقد أنشأت غرفة عملياتها في العاصمة اللبنانية بيروت وفق مصدر أمني مطلع لموقع الخنادق، وبدأت بتجنيد ضباط سوريين سابقين وأهم هؤلاء اللواء كمال علي حسن رئيس شعبة المخابرات العسكرية في نظام الأسد، الذي حظي بحماية أمنية من السفارة الإماراتية في بيروت التي استأنفت عملها مؤخرا، وتلقى دعما مالياً سخياً من الإمارات، وعشرات الضباط العلويين الآخرين، تم الاتفاق حسب المصدر الأمني على برنامج عمل سريع يبدا باستقطاب الضباط والجنود العلويين للسيطرة على مدن الساحل والموانئ البحرية فيها تمهيداً للسيطرة على دمشق قبل نهاية حزيران القادم، وأكد اللواء كمال حسن للإماراتيين ان لديه 35 ألف مقاتل جاهزون للتحرك والسيطرة على الساحل خلال ساعات، لكن اتضح لاحقاً ان هذا الضابط كان يخادع الاماراتيين فهو لم يستطع تجميع أكثر من 400 عنصر من الجيش السوري السابق.
حدد الإماراتيون ساعة الصفر غروب يوم الخميس في 6 آذار/ مارس 2025، وبدأت المجموعات المسلحة بقيادة اللواء كمال حسن عملية عسكرية واسعة للسيطرة على بانياس وجبلة واللاذقية ومدن الساحل السوري، الا ان إعلان هيئة تحرير الشام والميليشيات التكفيرية النفير العام في كافة المساجد في المحافظات السورية أدى الى زحف نحو 200 الف مقاتل نحو الساحل واستطاعوا خلال اقل من 48 ساعة استعادة السيطرة، وتنفيذ أبشع جرائم الإبادة الجماعية بحق العلويين في عملية تطهير عرقي غير مسبوقة في سوريا أدانتها دول العالم والمنظمات الإنسانية وحقوق الانسان. ووصف المراقبون الجرائم البشعة التي ارتكبها نظام الشرع بأنها رد فعل غير متناسب مع ما قامت به مجموعات كمال حسن أولاً، فاطلاق النار على دوريات الأمن العام او الهجوم على أحد مراكزه لا يستوجب قتل المدنيين والأبرياء في منازلهم، والأمر الثاني، ان للطائفة العلوية في سوريا الحق في التعبير عن رأيها والمطالبة بحقوقها التي تنتهك وترفض الادارة المؤقتة في دمشق إعطائها لهم.
إسرائيل نصحت الطحنون بالسيطرة على الموانئ السورية
تركيا أبلغت الشرع بان الإمارات تقف وراء الانقلاب الفاشل الذي استهدف الإطاحة بالشرع وليس فقط السيطرة على الساحل السوري ما شكّل صدمة له رغم إصراره في وسائل الاعلام على توجيه التهمة للعراق وايران وحزب الله وهو يدرك الآن أن طحنون بن زايد قاد الانقلاب، وقام بتجنيد اللواء كمال علي حسن والضباط العلويين في بيروت، فيما تشير المعلومات بان الكيان الإسرائيلي هو من نصح الاماراتيين باستغلال هذه الثغرة في المدن العلوية في الساحل لجعلها منطقة نفوذ إماراتية، ومنع تركيا من الاستحواذ على مصادر النفط والغاز فيها، بالطبع الهدف الأبعد لإسرائيل هو تقسيم سوريا الى كانتونات متناحرة واضعافها لا سيما ان كل الأقليات في سوريا حظيت بدعم أميركي ( الأكراد) أو إسرائيلي (الدروز) أو اوروبي ( المسيحيين) ولم يبقى الا العلويين الذين يطمحون لتأمين حماية دولية وسقف دولة ما تحميهم من بطش حكم الشرع وميليشياته في ظل الانتهاكات المستمرة بحقهم ومحاولات القضاء على وجودهم.
بعد الفشل المدوي للانقلاب الإماراتي في الساحل السوري، وجدت الولايات المتحدة راعية الرئيس الانتقالي احمد الشرع الفرصة المناسبة لفرض شروط قوات سوريا الديموقراطية "قسد" على الشرع والقبول بالورقة التي قدّمها قائد قوات قسد مظلوم عبدي قبل أسبوعين لدمشق، لكن رفضها الشرع بشكل قاطع حينها، الا انه اضطر للقبول بها بعد ان شعر بان زمام الأمور والسيطرة قد تفلت من يديه. حيث تنص بعض اهم بنودها لمصلحة الأكراد، الا ان تركيا رغم علاقة الشرع الوطيدة معها فوجئت بقرار الشرع وتوقيعه الاتفاق مع الاكراد الذي يضر بالمصالح الكردية ويعزز من دور قسد، وعلى الفور أبلغت الشرع انزعاجها ورفضها، وبدأت القوات التركية بقصف القوات الكردية بهدف الإطاحة بالاتفاق، إثر ذلك وردت أنباء عن ان قسد ألغت الاتفاقية بينها وبين الإدارة الجديدة في دمشق، وتقوم بإنزال جميع أعلام دولة دمشق، وترفع أعلامها، وتقوم بحملة اعتقالات ضد فصائل هيئة تحرير الشام. ويمكن القول ان الاتفاق أصبح حبراً على ورق رغم محاولات إنعاشه الأخيرة.
الشرع بين الولاء لأمريكا والانتماء السياسي لتركيا
أحداث الساحل أوضحت للرأي العام ان لاعبين اقليميين كالإمارات والسعودية ومصر والأردن قلقون من حكم الاخوان والإسلام "الراديكالي" في دمشق، وسيبذلون جهوداً لزعزعته والاطاحة به، رغم الحماية الأميركية التركية القطرية له، ويأتي في سياق الصراع والنفوذ بين الجهات المعنية، واتضح في البين أيضاً ان الشرع المدعوم مالياً من قطر، وسياسياً وامنياً من الأميركي، ويحظى برعاية تركية عبر مستشارين سياسيين وعسكريين وأمنيين يقيمون حوله في فنادق دمشق، يعيش في دوامة هذا الصراع ولن تسمح له هذه الأطراف المتناحرة التي تتسابق على النفوذ في سوريا ان يحكم أكثر من دمشق، وظهر ان الشرع هو أمريكي الولاء اكثر مما هو تركي الهوى لا سيما بعد ان ادار ظهره للمصالح التركية عندما وقع الاتفاق مع الأكراد بقرار أميركي. هذا الأمر تفيد المعلومات دفعت اسطنبول لإبلاغ الشرع بان بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان لن يقوم بزيارة قريبة الى دمشق بسبب التزامات الشرع الاخيرة مع الاستخبارات الأميركية التي أضرّت بمصالح تركيا.
ويبقى أن الأقليات في سوريا لا سيما العلويين الذين كان غالبيتهم يفضلون التعبير عن حقوقهم بطريقة سلمية عبر المظاهرات والتجمعات الشعبية تولّد لديهم اليوم سبب إضافي يدفعهم لمواجهة غطرسة وظلم الحاكم في دمشق الذي اعتبر المذابح التي حصلت أمراً "متوقعاً وعادياً"، وكل محاولات ترميم هذه العلاقة والاعلان عن لجنة لتقصي الحقائق ما هي الا لذر الرماد في العيون، والتعتيم على المجرمين الحقيقيين من هيئة تحرير الشام، في ظل هذا التآمر الدولي وسكوت العالم عن هذه الإبادة، والاكتفاء ببيانات الشجب والتنديد التي لا تغني ولا تثمن من جوع يرى العلويون والأقليات في سوريا ان الحق يؤخذ ولا يعطى، وأن من حقهم الدفاع عن أعراضهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.
mshamass110@yahoo.com