استطاعت التطورات الأخيرة في سوريا، أن تجذب الاهتمام قليلاً عن الانتصار الإلهي الذي حققه لبنان ضد الكيان المؤقت خلال معركة "أولي البأس"، والذي يفوق أهمية وتأثيراً بكل واقعية ومنطقية، الانتصار الإلهي الذي حققه لبنان عام 2006، ولو أن حجم التضحيات الكبير الذي قدمته المقاومة والشعب والجيش اللبناني كان كبيراً جداً.
فالتحديات التي واجهها لبنان خلال 66 يوماً عام 2024، كانت أخطر وأكبر بكثير من تحديات حرب الـ 33 يوماً من عدوان تموز / يوليو العام 2006. وكان التدبير الإلهي، وتحته الصمود اللبناني على كافة المستويات، هو من صنع هذا الانتصار الإلهي الكبير.
فالمخططات الإسرائيلية والأمريكية التي وُضعت للقضاء على المقاومة الإسلامية في لبنان – حزب الله، ومن خلفه كل محور المقاومة. أي إعادة رسم خريطة منطقة غربي آسيا وفقاً لمصالح المعسكر الأمريكي ومن يتبعه من دول غربية وعربية، كانت تبدأ من سوريا العمق الاستراتيجي لحزب الله وعقدة الوصل والربط في المحور، لأنه باعتقاد هذا المعسكر لا يمكن هزيمة حزب الله، دون حصاره برياً، وهذا ما لن يتحقق بوجود العمق السوري له.
ولعلّ حادثة الهجوم على حفل تخريج الضباط في الجيش السوري بمدينة حمص، في 5 تشرين الأول / أكتوبر 2023، كانت إحدى العمليات الافتتاحية لهذه المخططات، لكن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في غزة بعد يومين في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، خلطت الأوراق والمخططات، بطريقة أفادت المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، لأنها سلبت عنصر المباغتة من إسرائيل ومن خلفها أمريكا.
وعليه، فإن مخطط العدوان الإسرائيلي على لبنان كان سيتم بمسار مماثل لما حصل خلال معركة أولي البأس، لكن بالمسار التالي:
1)هجوم جوي شامل ومباغت ومتزامن، لاغتيال قادة الحزب -خاصة العسكريين الجهاديين – وفي مقدمتهم الأمين العام وسيد شهداء الأمية السيد حسن نصر الله، لضرب منظومة القيادة والسيطرة (وهذا ما حصل فعلاً خلال الأيام العشرة الأولى للمعركة لكن المقاومة بإعجاز منقطع النظير تمكنت من استعادة منظومتها القيادية).
وبالتزامن مع عمليات الاغتيال، كان سيتم ضرب بنك الأهداف المكون من مئات النقاط والمراكز والمنشآت، بما تحتويه من قدرات عسكرية استراتيجية (برية، وجوية، وبحرية، وصاروخية). إلّا أن قادة المقاومة العسكريين كانوا قد تحسبوا لمثل هكذا سيناريو، وأقاموا بعض المنشآت الاحتياطية السرية.
2)بالتزامن مع حصول الهجوم الجوي الشامل، تقوم القوات البرية الإسرائيلية باجتياح الأراضي اللبنانية، بدون سقف محدد للمسافة التي سيتم الوصول اليها، لأنهم كانوا يخططوا لمفاجأة أساسية ستخلط كل أوراق المواجهة، وهي تفجيرات البايجر والأجهزة اللاسلكية، التي كانت ستقضي على ما لا يقل عن 9 آلاف مقاوم في الميدان أو في القيادة، وهذا ما لن تستطع المقاومة حينها مواجهته فضلاً عن التعامل معه. وهنا كان من المرجح جداً أن تصل إسرائيل الى العاصمة اللبنانية بيروت.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن التدبير الإلهي كان وراء إفشال هذه المفاجأة أيضاً، عندما استطاع أحد أبطال جهاز أمن المقاومة، من اكتشاف الخرق الموجود في بطاريات هذه الأجهزة. لذلك سارع الإسرائيليون الى تنفيذ تفجيرات البايجر، حتى ولو في غير الوقت المناسب المخطط لذلك، كي لا تخسر ما أعدّت له منذ سنوات.
فبدأت معركة أولي البأس في 17/09/2024، بسيناريو مختلف عن المخطط، عندما حصلت هجمات البايجر، ثم تبعها تفجيرات أجهزة اللاسلكي، ومن ثم اغتيالات قادة قوة الرضوان وغيرهم من قادة المقاومة، مروراً بالهجوم الجوي الشامل على منشآت الحزب وقدراته، وصولاً الى اغتيال السيد الشهيد حسن نصر الله، في 27 أيلول / سبتمبر 2024، وما تبعه من عليات اغتيال أخرى - للسيد هاشم صفي الدين وحوالي أكثر من 50 قائد عسكري - أدت إلى تعطيل هيكل قيادة الحزب بشكل كبيرن لكن لمدة 10 أيام قبل أن يتمكن الحزب من ترميم صفوفه القيادية، والعودة بقوة الى تهديد عمق الكيان وتنفيذ عمليات غير مسبوقة في كل تاريخ الصراع مثل: استهداف وزارة الحرب "الكرياه" في وسط تل أبيب، واستهداف منزل بنيامين نتنياهو في قيسارية.
بعد ذلك، دخلت القوات البرية للاحتلال الإسرائيلي لبنان في 1 تشرين الأول / أكتوبر 2024، وشاركت في عمليات تهدف إلى إضعاف القدرات العسكرية لحزب الله، لكنها بالرغم من نقاط القوة والتفوق على مختلف الأصعدة، وقفت عاجزة عن الوصول الى بعد 5 كم من الحدود اللبنانية الفلسطينية. فاستمر عجزها الميداني أسابيع، حتى رضخت أخيراً للضغط الأمريكي، ووافقت على وقف إطلاق النار في 26 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، من أجل نقل التركيز للجبهة السورية، التي بدأ حراك الجماعات المسلحة فيها نحو دمشق بالتزامن.
أبرز نقاط الاختلاف ما بين حرب العام 2006 و2024
_وجود قيادة المقاومة بكل أركانها من الأمين العام السيد نصر الله ومعاونيه من القادة الجهاديين الكبار كالحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين والسيد محسن شكر والحاج إبراهيم عقيل وغيرهم من القادة، الذين أصبح الكثير منهم في عداد الشهداء. ولا ننسى هنا أيضاً وجود قائد قوة القدس في حرس الثورة الإسلامية الفريق الشهيد الحاج قاسم سليماني، الذي بقي الى جانب قادة المقاومة طوال أيام حرب العام 2006.
لذلك كانت حرب العام 2024 أقسى لجهة غياب القادة، وهذا ما لا تستطيع أي منظمة أو فصيل في العالم الصمود أمامه، لكن حزب الله بفضل الله وصمود مقاوميه الإعجازي وثبات شعب لبنان وتضامنهم، تمكن من لملمة الجراح وترميم الخسائر خلال الحرب بأسرع وقت.
فماذا بعد؟
أما على صعيد المرحلة المقبلة، وبعد أن زعم المعسكر الأمريكي بأن حزب الله قد هُزم في هذه الحرب، وبأنه لن يستطيع القيام من هزيمته إلا بعد عدة سنوات، وبأن محور المقاومة قد كُسر في المنطقة بفعل التحوّل السوري. لذلك يجب الإلفات للأمور التالية:
1)تمكنت المقاومة من ترميم قدراتها البشرية والمادية خلال الحرب وبعدها، وهي جاهزة لمواجهة أي تهديد إسرائيلي، وسيكون لها عودة قوية الى معادلات الردع والدفاع عن لبنان، بعد انتهاء هدنة وقف إطلاق النار.
2)ستشهد معركة أولي البأس مراجعة شاملة من قبل حزب الله، لاستخلاص العبر والدروس. ومن الواضح بأن إسرائيل قد استنفدت كل ما تستطيع القيام به من خيارات لمواجهة المقاومة، بينما الحزب لا يزال يمتلك من أوراق القوة والمفاجآت الكثير مما لم يستخدم.
3)ستواجه إسرائيل نسخة جديدة من حزب الله، ستكون غامضة الى حد كبير، بقيادة جديدة ستكون سرية جداً ولا تعلم عنها شيئاً، وهذا بعكس ما حصل خلال هذه المعركة.
4)ستستطيع المقاومة التي تمكنت من كسر كل الحواجز، لدعم المقاومة الفلسطينية في غزة بالسلاح، من ضمان استمرار حصولها على السلاح والقدرات، بمعزل عما قد تكون عليه مواقف الحكومة الانتقالية السورية التابعة لهيئة تحرير الشام تجاه الصراع مع إسرائيل.