حمل هوكشتاين إلى لبنان منذ طوفان الأقصى العديد من الرسائل التي تأثّرت بالحرب في غزة من جهة، وسخونة الجبهة الشمالية، من جهة أخرى. ونشطت حركة الموفد الأميركي ما بين لبنان والكيان المؤقّت، وتكاد تكون زياراته بمعدل مرة شهريًّا إلى لبنان منذ السابع من تشرين الأول 2023.
لكن شهد تشرين الأول العام 2024، تحوّلًا متطرّفًا ومنحازًا في الطرح الأميركي بما يخصّ الجبهة اللبنانية، اعتمادًا على تقديرات الكيان. شكّل تاريخ اغتيال الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد نصر الله، لحظة مفصلية في مسار التفاوض الأميركي لإنهاء الحرب لصالح الكيان، الحرب التي عجز الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي والبريطاني وبعض الدول العربية عن حسمها لصالح الكيان المؤقّت على حساب قوى المقاومة في غزة وفي لبنان، والعجز سيّان في السياسة والميدان. هذا، وفي حين تشير الحركة الأميركية التفاوضية إلى وجود تردد وتراجع في المطالب، وتفاوت وتزاحم، يتقن الأميركي تكتيك التلاعب التفاوضي ويمارس الخداع والتضليل باتجاهات مختلفة.
حملت زيارة تشرين الأول 2024، ورقة عمل من باب الاعتقاد بـ "ضعف المقاومة". المقترح الجديد حصل مسبقًا على موافقة الكيان، وكان مهّد هوكشتاين قبل زيارته لبيروت، من خلال أوساط دبلوماسية وعبر فريق السفارة الأميركية في بيروت بقيادة ليزا جونسون، بإبلاغ جهات لبنانية عدة بأن لبنان "ليس في موقع من يمكنه النقاش كثيرًا، وأن عدم اخذه بالمقترح يعني ان الحرب ستتواصل وستكون أكثر قساوة". هوكشتاين تحدث بنبرة تهديد مرتفعة وكان واضحًا في أن المسؤولين في تل ابيب ليسوا في وارد السير في أي اتفاق لا يلبّي شروطهم، وأنه لا وقف لإطلاق النار قبل اتفاق كامل. وهذا يعني أن ورقة العمل التي قيل إنها صيغت بلغة "دبلوماسية"، هي ترجمة عملية لما أعلن عنه غالانت بقوله "المفاوضات لن تتم إلا تحت النار". وتحدث هوكشتاين بأسلوب الثقة بالشعور الإسرائيلي بـ"نشوة النصر"، حتى تبنّت الرسالة أعلى السقوف بالقول: "اليوم خرجت الأوضاع عن السيطرة"، وواشنطن تريد "إنهاء الصراع إلى الأبد".
هوكشتاين أوضح أن واشنطن والكيان المؤقّت ترفضان العودة الى القرار 1701 بصورته القائمة حاليًّا. وقال صراحة إن هذه الصيغة "باتت من الماضي". وقدّم صيغة لوضع حدّ لهذا النزاع "لمرّة أخيرة"، ونقل للجميع قوله: "نحن بعيدون كثيرًا ممّا كان يجب أن يُطبّق". زيارة هوكشتاين لم تتطرق على الاطلاق الى ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان، بل إلى تعديل القرار ومهام قوة اليونيفل وتوسيع نطاقها الى ما بعد شمال الليطاني، أي إن المبعوث قدم تصورًّا جديدًا للقرار 1701 يقوم على مبادئ مختلفة؛ لا تقتصر على آلية التنفيذ بل على أساس المهمة. وفي المعلومات أنّ الإضافات التي حملها هوكشتاين كآليّات جديدة لتطبيق القرار 1701، بما فيه القرار 1559 ومراقبة الحدود والمعابر البرّية والبحرية لمنع وصول أيّ سلاح للحزب، والكثير من البنود التي لم تطبّق بعد؛ كلها إضافات تتطلّب تفاوضًا على قرار جديد يصدر عن مجلس الأمن الدولي، وبالتالي يحتاج إلى التصويت. وهذا القرار يفترض موافقة كلّ الدول الدائمة العضوية وعدم رفع أيّ منها الفيتو.
نقاط التعديل في القرار 1701
- تعديل نص مقدمة القرار لجعله قرارًا "يهدف الى احلال السلام على الحدود بين لبنان واسرائيل ومنع أي وجود مسلح في المناطق اللبنانية القريبة من هذه الحدود".
- توسيع النطاق الجغرافي لسلطة القرار الدولي، إلى شمال نهر الليطاني بمسافة عدة كيلومترات، وأقله كيلومتران اثنان".
- "زيادة كبيرة في عديد القوات الدولية العاملة ضمن قوات حفظ السلام، ورفع عديد قوات الجيش اللبناني المفترض نشرها في تلك المنطقة".
- "توسيع مهام القوات الدولية بحيث تشمل الحق في تفتيش أي نقطة او مركبة او موقع او منزل يشتبه بأن فيه اسلحة، والحق في القيام بدوريات مفاجئة الى اي منطقة في نطاق عمل القرار من دون الحاجة الى إذن من السلطات اللبنانية، وان يكون بمقدور القوات الدولية إطلاق عملية مسح متواصلة من خلال المسيّرات فوق كل المناطق التي يشملها النطاق الجغرافي للقرار، وفي حال قررت الدخول الى ممتلكات خاصة، فان لها الحق في ذلك، لكن بالتعاون مع الجيش اللبناني".
- "توسيع نطاق عمل قوات الطوارئ الدولية لتشمل السواحل اللبنانية من الجنوب الى الشمال، بما يشمل المرافئ اللبنانية، والحق في التدقيق في هوية السفن المتجهة اليها، خصوصاً الى المنطقة التي تنتشر فيها القوات الدولية. وكذلك نشر فرق مراقبة في المطارات المدنية العاملة او المقفلة، ونشر أبراج مراقبة ونقاط تدقيق على طول الحدود البرية للبنان مع سوريا من عكار شمالاً إلى البقاع الغربي وراشيا جنوبا".
- "الحاجة الى وجود إشراف (من دون شروحات) على تنفيذ القرار 1701".
عوامل إبطال ضغط "الطرح المعدّل"
هذه البنود قوبلت برفض قاطع على المستوى السياسي لرئاستي مجلس النواب والحكومة بالتكليف، والمستوى العسكري المتمثل بالمقاومة. وأثبت التوافق اللبناني على القرار 1701 كما هو دون تعديل، موقفًا قويًّا، فقد تبنّى الجانب اللبناني الرسمي مجموعة من الثوابت السياسية التي ترفض المشروع المعدّل، ما عرف بالقرار "1701 بلاس"، وإلا وقف تنفيذه. ومن هذه الثوابت:
أولًا: إن أي نقاش او بحث لا يمكن أن يتطرق الى سلاح المقاومة خارج النطاق الجغرافي للقرار 1701، وأنه لا مجال لتوسعة هذا النطاق تحت اي ذريعة.
ثانيًا: رفض مطلق لانتشار القوات الدولية، أو أي قوات أجنبية، على طول الحدود مع سوريا، وهو أمر يناقض السيادة اللبنانية أصلاً، وطبيعة العلاقات بين لبنان وسوريا، ولا يمكن دون موافقة سوريا.
ثالثًا: تشترط إضافة أي دولة جديدة الى الدول العاملة في القوات الدولية الحصول على موافقة لبنانية كاملة.
رابعًا: عملية الإشراف الأميركية والبريطانية على كل آليات عمل القوات الدولية تعني العودة إلى ما قبل صدور القرار 1701 عام 2006. وهو ما ترفضه المقاومة بشكل رئيسي لأنه إشراف تلقائي من جانب العدو الإسرائيلي، وهو ما يضرب جوهر القرار الذي يفرض على الجانبين أليات التنفيذ".
أضف إلى هذه الثوابت السياسية نقطة ثقل جوهرية هي استعادة المقاومة التحكم في الميدان وإلحاق الخسائر بالعدو، خاصة مع بدة عمليات الغزو البري للجنوب اللبناني، وبدء تفعيل القدرات الصاروخية والمسيرات والدفاع الجوي.
خلاصة
تشير مضامين الزيارات الأميركية للموفد هوكشتاين إلى لبنان على مدى عام تقريبًا، إلى وجود تذبذب في الرسائل وتشويش، تفيد افتقار الرؤية الأميركية للوضوح، فضلًا عن الافتقاد إلى القوة والحسم في بسط السيطرة والنفوذ على طرفي الصراع، وهو يحمل من الدلالات الكثير على مدى تزعزع المكانة الأميركية في النظام الدولي. المشروع الأميركي الفرنسي، القرار"1701 بلاس"، سقط على الرغم مما حمله هوكشتاين من "مفاوضات تحت النار". رفض لبنان رسميًّا الدعوة الأميركية الصريحة إلى الاستسلام، وبقي الميدان هو الحكم. تفيد تجربة التفاوض الأميركي في غزة وعلى مدى عام كامل أنه لم يحسم الحرب وتغاضى عن انتهاك الحقوق الإنسانية والدولية، بل وأمّن الوقت اللازم عبر المماطلة والتسويف بينما ينفّذ الاحتلال الصهيوني أبشع الجرائم الإنسانية.
الوضع التفاوضي الأميركي مع جبهة الإسناد اللبنانية تكشف مدى التردد والتراجع في المطالب التفاوضية، بحيث تتقدم نقطة سلّم أولويات التفاوض وتتراجع أخرى، بل وقد تُغيّب إحداها كليًّا بعد اندفاعة قوية تجاهها. وعلى الرغم مما تظهره السياسة الأميركية التفاوضية من التراجع والتردد مع المبعوث هوكشتاين، إلا أنها واضحة السياقات في التلاعب التفاوضي لجهة إظهار الاستعداد للمحادثات والتنازلات، ومحاولة تشتيت الطرف الآخر، والتعرف على قدراته وتقييم نواياه، ونقل رسائل التهديد لضرب المعنويات وتغذية الانقسامات، وتوفير شرعية وغطاء لأي عدوان إسرائيلي، حتى لو استهدف المستشفيات والطواقم الطبية وقتل العشرات من المدنيين في عملية استهداف لعنصر واحد من حزب الله.