لم تكن جريمة البيجرات التي ارتكبها الموساد الإسرائيلي ضد مدنيين وأفراد في المقاومة الإسلامية على امتداد الأراضي اللبنانية، عملية أمنية فحسب. لقد حملت في طياتها أهدافاً عسكرية وسياسية في آن واحد. اذ اجتاحت "إسرائيل" جنوب لبنان في العام 1982، ضمن عملية "سلامة الجليل"، بهدف إبعاد المقاومة الفلسطينية واللبنانية عن الحدود الشمالية والقضاء عليهما، وفي مستعمرات الشمال بالتحديد. واليوم، وبعد عملية الإسناد التي قامت بها المقاومة الإسلامية في لبنان، ازدادت الأزمة في مستعمرات الجليل واضطر محتلوها لإخلائها مما تسبب بأزمة كبرى في داخل الكيان.
بدأ الحديث حول ضرورة المواجهة العسكرية مع حزب الله من أجل دفعه لوقف العمليات في شمال فلسطين المحتلة منذ أشهر. وقد عرضت شبكة ABC News، منذ 3 أشهر وخلال برنامج بعنوان "اوقات اسرائيل" حديثاً لأحد مديري الدراسات الصهيوني في الشمال الفلسطيني، وهو ضابط صهيوني سابق، كان يتحدث للأميركيين عن ضرورة عودة الكيان لاحتلال الجنوب وخاصة النقاط المرتفعة منه، والكاشفة للجيش الإسرائيلي.
إذن كانت عملية تفجير البيجر واللاسلكي، المنّبه الطنان، عملية استفزازية أولية للحزب من أجل توسيع المعركة في شمال فلسطين، ومع الضغط المتزايد للمستوطنين من أجل تأمين عودتهم إلى الشمال، استمر الاستفزاز في عملية قصف الضاحية واغتيال القادة ومنهم الشهيد القائد ابراهيم عقيل (الحاج عبد القادر)، وما يحدث اليوم من توسع في العمليات الصهيونية في الجنوب والبقاع وبيروت، في الغبيري وحارة حريك، إلا إمعاناً في القتل والتدمير في بيئة حزب الله، كما يسميها العدو، من أجل الانقلاب عليه، وهذ ما لن يحدث. العملية في حقيقتها هي عملية عسكرية من أجل تأمين مستعمرات الشمال أولاً، ومن أجل صرف الانتباه العالمي عما يحدث في غزة والضفة الغربية من مجازر وتهجير ثانياً.
بعد أيام قليلة، سيكون قد مر عام كامل على عملية طوفان الأقصى، التي بدأت في 7 تشرين الأول/ اكتوبر 2023، وعام كامل على العمليات العسكرية، التي بدأها حزب الله دعماً لغزة في الثامن من الشهر نفسه والعام نفسه. وخلال عام لم يستطع الصهاينة ومن خلفهم الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون الوصول إلى إنجاز أي من الأهداف التي وضعها رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو. واليوم دخل الصهاينة في حرب مع لبنان، والتي يقف وراءها كل من مع أو ضد نتنياهو، ومن هنا يتضح أن كل ما فعله نتنياهو بعد طوفان الأقصى هو أمر مخطط ومجهز له من أجل القضاء على حماس والمقاومات الفلسطينية وتفريغ غزة والضفة ومن ثم التوجه نحو لبنان. وفي هذا الموقف كان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله واضحاً في توصيف المخطط الصهيوني.
نتنياهو لم يخرج قيد أنملة عما رسمه نظامه الأمني العميق والدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، والدليل في دعمه المطلق حتى النخاع، على الرغم من التأويلات الصحفية والمظاهرات التي همها المطالبة بالأسرى الصهاينة حصراً.
وفي برنامج لبيرس مورغان على قناته على يوتيوب Pierce Morgan Uncensored ، والتي يستضيف بها صحفيين وسياسيين وناشطين، بعد خروجه من CNN، استضاف في بداية الحلقة التي عنونها ب "ِAll-Out War"، "الجميع إلى الحرب"، سفير الكيان في الأمم المتحدة، داني دانون، وسأله عن الموقف الصهيوني عامة من القصف لمساحة كبيرة في لبنان وتهجير الجنوبيين وقتل أكثر من 300 شخص في يوم واحد بينهم نساء وأطفال، وأن هناك من يقول أن نتنياهو يحاول أن ينقذ نفسه، فأجابه دانون، بأن الكيان بأكمله يقف وراء نتنياهو في عملية الشمال ويدعمه من أجل تأمين عودة آمنة للمستعمرين الصهاينة إلى بيوتهم في المستعمرات الشمالية، والتي أخليت بسبب صواريخ حزب الله.
تنفذ المقاومة عملياتها من لبنان ضد مواقع الجيش الصهيوني حتى الساعة، وكان من أهمها، يوم الثلاثاء، حيث ضرب قاعدة الموساد بصاروخ بالستي من طراز قادر 1، وحتى الساعة لم توجه جبهة المقاومة ضربات باتجاه المستعمرين "المدنيين". لن يكون البالستي آخر ضربة توجّه للصهاينة، ولكن من الواضح أن جبهة الشمال لم تعد في حدود حيفا، بل باتت فيما بعدها، وهذا ما لم يكن يتأمله الصهيوني من فتح معركته في جنوب لبنان، وهذا ما سيندم عليه بالتأكيد، خاصة وأن آخر إحصائية تقول: أن هناك 3 مليون مستعمر صهيوني باتوا اليوم في الملاجئ. وعلينا هنا أن نعلم، أن المقاومة تحسبها جيداً، فأي ضربة خارج القواعد العسكرية قد تطال فلسطينيين، ولا أحد يريد تعريضنا أهلنا في الشمال للخطر، ولكن لا سلام للجليل الذي يقطن مستعمراته الصهاينة، والأكثر من ذلك أن المرء بات متيقناً أن عملية تحرير فلسطين قد بدأت فعلياً من الجليل، وهذا ما سيجلب السلام له.
المستعمرون الصهاينة، كما هو حال المستعمرين في أية منطقة من العالم لا يستطيعون الاستمرار في مكان جاؤوا إليه من أصقاع بعيدة. فالإمبراطورية البريطانية بعظمتها لم تستطع الوقوف أمام مد المظاهرات والمسيرات والمقاطعة الاقتصادية التي خرجت في الهند والتي فرضها الفقراء قبل الأغنياء. وخرجت فرنسا "المتوحشة" من الجزائر بعد أكثر من مئة وخمسين عاماً من الاحتلال الاستيطاني الاحتلالي دون قيد أو شرط، ومن مختلف الدول العربية والعالمية المقاومة. وأما تلك التي لم تقاوم مازال حكامها الذين فرضوا في زمن الاحتلالات قرارهم محتلاً.
بعد قول ذلك، لابد أن يقوم المحتل بعمليات يائسة من أجل إثبات وجوده، ولكن العدو الذي خرج في العام 2000 بعد "عملية سلامة الجليل" الأولى وقدماه تضرب رأسه، ولم يستطع تنفيذ الأجندة الأميركية في بناء شرق أوسط جديد في العام 2006، لن يستطيع اليوم وبعد عام على دعم صمود غزة وتهجير المستعمرين من مستعمرات شمال فلسطين، لن يكون اليوم قادراً على المضي قدماً في عملية سلامة الجليل الثانية وإن طالت، وقد يخرج منها والكيان برمته أفقياً ليدفن في مزبلة التاريخ.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU