الثلاثاء 14 تشرين أول , 2025 03:40

التحولات الخفية بعد وقف النار: واشنطن توقف الحرب وإسرائيل تخسر في السياسة

ترامب ونتنياهو والمظاهرات المؤيدة لفلسطين

يبدو أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتنفيذ صفقة التبادل بين إسرائيل وحركة حماس وفق الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فتحا الباب أمام تحولات جديدة في مسار الحرب والسياسة معاً. فخلف الشعارات الأميركية عن "إنهاء الحرب" تختبئ معادلات أعمق تمسّ موقع إسرائيل في الإقليم والعالم، وتعيد صياغة التوازنات التي طالما بدت ثابتة. ثمة أمران أساسيان يبرزان من بين سطور المشهد الراهن: الأول أن الولايات المتحدة هي التي حسمت في نهاية المطاف قرار وقف إطلاق النار، والثاني أن إسرائيل بدأت تفقد ما تبقى من مكانتها الدولية، متجهة نحو عزلة سياسية غير مسبوقة قد تفتح الباب أمام تدويل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

في ما يخص الأمر الأول، تجمع معظم التحليلات الإسرائيلية على أن تل أبيب لم تعد تمتلك حرية القرار في الحرب أو السلم، وأن واشنطن باتت صاحبة الكلمة الفصل في تحديد مسار العمليات والسياسة على السواء. فكما يقول ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة هآرتس، فإن السياسة الإسرائيلية منذ نشوء الدولة العبرية ظلت مرهونة بالمصالح الأميركية، وقد تجلّى ذلك بأوضح صوره في الحرب الأخيرة على غزة. ويضيف اللواء الاحتياط يسرائيل زيف أن إسرائيل تجاوزت ذروة قوتها العسكرية منذ حزيران الماضي، حين تمكّنت من تدمير معظم البنية القتالية لحماس، لكن الحرب بعد ذلك تحولت إلى عبء سياسي، لا إلى وسيلة لتحقيق أهداف جديدة. ويشير إلى أن نتنياهو فقد القدرة على اتخاذ قرار إنهاء الحرب، فقام ترامب باتخاذه بدلاً منه، في خطوة تؤكد مدى تبعية القرار الإسرائيلي للبيت الأبيض.

ويرى زيف وآخرون أن استمرار العمليات العسكرية بعد تلك الذروة لم يكن سوى محاولة سياسية يائسة للحفاظ على تماسك الحكومة الإسرائيلية. أما ما سُوّق له على أنه "إنجازات ميدانية" كدفع السكان جنوباً أو تدمير الأبراج، فهو في جوهره تعبير عن إفلاس عسكري، أكثر مما هو دليل على النصر.

أما الأمر الثاني، المتعلق بتدهور وضع إسرائيل الدولي، فيبدو أكثر خطورة من الهزيمة الميدانية. إذ تؤكد أغلب التحليلات داخل إسرائيل أن الحرب لم تحقق أي هدف استراتيجي، بل أفضت إلى نتائج معاكسة تماماً: عزلة سياسية، تصدّع في علاقاتها الإقليمية، وتآكل صورتها أمام الرأي العام العالمي. ففكرة "النصر المطلق" التي روّج لها نتنياهو تحوّلت إلى شعار سياسي خاوٍ، لا يجد له ترجمة على أرض الواقع.

ويشير محللو الصحف الكبرى في إسرائيل، مثل تسفي برئيل وناحوم برنياع، إلى أن ما تحقّق عسكرياً بقي في الإطار التكتيكي، من دون أن يُبنى عليه تحالف استراتيجي مع الدول العربية أو مع الولايات المتحدة. بل العكس هو ما حدث: إذ ظهرت جبهة عربية ودولية تعتبر إسرائيل تهديداً للاستقرار الإقليمي، وترافق ذلك مع اعترافات متتالية بدولة فلسطين، بادرت إليها السعودية وفرنسا، ومع تراجع بريق اتفاقيات التطبيع التي كانت إسرائيل تتباهى بها قبل عامين فقط. ومع هذا التحول، بدأت صورة إسرائيل في العالم تتآكل، لتتحول إلى دولة منبوذة تُرفع ضدها الأعلام الفلسطينية في العواصم الأوروبية، ويُقاطع فنانوها وباحثوها في المحافل الدولية.

ويضيف آفي يسسخاروف من يديعوت أحرونوت أن القضية الفلسطينية استعادت حضورها الدولي بقوة غير مسبوقة، حتى باتت تحظى باعتراف سياسي وإنساني واسع. فوقف إطلاق النار، بحسبه، ليس نهاية المعركة بل بداية مرحلة جديدة عنوانها إعادة التوازن الأخلاقي والسياسي في النظرة إلى الصراع. ويذهب المحلل العسكري آفي أشكنازي إلى أن إسرائيل فقدت معركتها على الرأي العام العالمي، بعدما كسب الفلسطينيون قلوب الشعوب في أوروبا والعالم.

هذه الخلاصة تتقاطع مع تقديرات "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، الذي يرى أن إسرائيل تمرّ بأخطر مراحل عزلتها الدولية. فالباحثة بنينا شرفيط–باروخ تؤكد أن إسرائيل التي كانت تحظى بدعم دولي واسع عقب عملية طوفان الأقصى عام 2023، وجدت نفسها بعد عامين فقط في أدنى موقع سياسي منذ تأسيسها. فبدلاً من استثمار الدعم الدولي، عمّقت الحكومة الإسرائيلية عزلتها بسياستها المتعنتة، متذرعة بمعاداة السامية لتبرير فشلها السياسي والدبلوماسي.

وترى شرفيط–باروخ أن المعركة الحقيقية التي تخوضها إسرائيل اليوم ليست عسكرية بل سياسية، وهي تخسرها بشكل متسارع. فالسياسة الإسرائيلية، بحسبها، تساهم في تقوية "الخصم"، أي القضية الفلسطينية، أكثر مما تضعفه. حتى أن نتنياهو نفسه اعترف في ما يُعرف بـ"خطاب إسبارطة" بأن إسرائيل تواجه هزيمة سياسية لا يمكن تجاهلها، وأن أثمانها ستدفعها الدولة والمجتمع معاً.

وعليه، يبدو أن ما بعد وقف إطلاق النار ليس نهاية للحرب، بل بداية لتغيّر أعمق في موقع إسرائيل في النظامين الإقليمي والدولي، حيث تتقلّص قدرتها على الفعل السياسي والعسكري، فيما تعود القضية الفلسطينية لتتصدر واجهة المشهد العالمي من جديد، لا كأزمة إنسانية فحسب، بل كقضية تحرّر واعتراف دولي متنامٍ.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور