في قلب تل أبيب، حيث تختلط الأبراج المدنية بالمراكز العسكرية، تمتد "الكرياه" كمجمع أمني ضخم يمثل العاصمة العسكرية المصغّرة للكيان الإسرائيلي، ومقر وزارة الحرب وهيئة الأركان العامة. غير أن عمق هذا المجمع لا يقف عند البنية التنظيمية فحسب، بل يتجاوزها ولهذا تعرف الكرياه داخل المؤسسة العسكرية باسم "الحفرة"، وهي القاعة المحصّنة تحت الأرض التي تُدار منها الحروب وتُبنى فيها الخطط القتالية، بعيداً عن أي ضوء أو هواء أو تواصل مع الخارج.
بيئة خانقة تحت الأرض
تُعد حفرة الكرياه نموذجاً لأقصى درجات العزلة والانفصال عن العالم الخارجي. فبسبب عمقها الكبير وطبيعة تحصينها الخرساني، يعاني الجنود العاملون فيها من سوء تهوية مزمن وضغط هوائي متواصل. ويخلق الهواء المعاد تدويره بيئة خانقة، تؤدي إلى نزيف الأنف، الصداع، التعب المزمن، والإرهاق العصبي، وفق شهادات من ضباط خدموا داخلها.
يعيش الجنود العاملون في الحفرة في عزلة تامة، لا يرون فيها سماءً ولا بحراً ولا شمساً، ما يجعلهم يعيشون ما يشبه العزلة الحسية التي تؤثر تدريجياً على التوازن النفسي ولذلك نرى إقدام كبير على تقديم الجنود لاستقالتهم من الجيش أو هروبهم وصولاً إلى انتحارهم. لذلك لا يستطيع الجنود الاستمرار في الخدمة في هذه البيئة المغلقة دون آثار جانبية، سواء من ناحية التركيز أو النوم أو الصحة الجسدية والنفسية.
انفصال عن الواقع
يصف أحد الضباط العاملين في الحفرة تجربته بالقول إن "كل ما يحلم به الجنود هو نافذة صغيرة وقطرة أكسجين". فالعزلة المطلقة عن العالم الخارجي تخلق حالة من الانفصال النفسي والمعرفي، ما يجعل الجندي يعيش في واقع موازٍ، منفصل عن طبيعة الحياة اليومية. ومع تراكم الضغط النفسي وغياب العوامل المساعدة، تتزايد حالات الإرهاق الذهني وتراجع التركيز، وهو ما يشكل خطراً مباشراً على نوعية القرارات التي تُتخذ في غرفة عمليات بهذه الحساسية.
هذه الأزمة النفسية لا تنفصل عن الرمزية السياسية للمكان، فالكرياه تمثل قلب القرار الإسرائيلي في الحرب والسلم، ومن المفترض أن تعكس صورة "القوة والسيطرة"، لكن واقعها الداخلي يكشف عن هشاشة عميقة تسيطر على كل العاملين فيها.
الضغط الجسدي
إلى جانب الضغوط النفسية، يعاني الجنود من إجهاد جسدي متكرر نتيجة العمل المتواصل دون فترات راحة في ظروف مغلقة. فالمهام داخل الحفرة تتطلب يقظة دائمة، واستعداداً للانتقال من وضعية إلى أخرى في غضون ثوانٍ، كما يصفها أحد الضباط. هذا النمط من العمل يولّد إرهاقاً ويؤثر على الأداء الإدراكي والبدني في الوقت نفسه.
يُضاف إلى ذلك الضغط الناتج عن البيئة التقنية المكثفة، حيث تحيط الشاشات، وأجهزة الاتصال، والمعدات الحساسة بالجنود من كل جانب، في تفاعل دائم مع أصوات الإنذار وبيانات الحرب. في مثل هذا المناخ، يصبح هامش الأخطاء أكبر، وهذا ما يخيف الاحتلال من الواقع الذي أصبحت فيه الكرياه.
الموقع المقلق
إلى جانب معاناة جنود الاحتلال الجسدية والنفسية، تشكل الكرياه مصدر قلق استراتيجي للداخل الإسرائيلي نفسه. لكونها هدفاً محورياً في أي حرب مقبلة في ظل وجودها بقلب مدينة تل أبيب المكتظة، لذا أي استهداف موجّه إليها قد يصيب منشآت أخرى محيطة بها. ولهذا السبب، تتصاعد بين الحين والآخر أصوات داخل الكيان الإسرائيلي تطالب بنقل المقر إلى خارج تل أبيب إلى منطقة مثل النقب "لتقليل المخاطر" على المستوطنين، لكن هذه الخطط تبقى مجمّدة بسبب كلفتها العالية وتعقيدها اللوجستي. ونذكر إلى أنه وخلال عملية العصف المأكول عام 2014، كشفت كتائب عز الدين القسام عن إجرائها طلعات جوية فوق مبنى وزارة الدفاع الإسرائيلية في الكرياه، باستخدام طائرات "أبابيل 1". وكذلك قصف حزب الله "الكرياه" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 خلال الحرب على لبنان باستخدام مسيرات وصواريخ "قادر 2" ما عزز الخوف لدى المستوطنين. وخلق هذا الوضع توتراً مستمراً بين المستوطنين والقيادة العسكرية للاحتلال، إذ يرى البعض أن قرب الكرياه من "الأحياء السكنية" يجعلهم رهائن لأي مواجهة مستقبلية، بينما تصرّ المؤسسة العسكرية على بقائها في موقعها الراهن باعتبارها لما يجسده من قيمة تاريخية بالنسبة للصهاينة.
حيث تمثل الكرياه في المفهوم الإسرائيلي، رمزاً تاريخياً متجذراً منذ قيام الكيان، فهي المقر الذي شهد أولى اجتماعات الحكومة المؤقتة عام 1948، ومنها صيغت سياسات الحرب والدفاع. إلا أن التحصين المبالغ به والعزلة المفرطة حولتها إلى ما يشبه "القبر"، حيث يعيش الجنود فيها في بيئة مغلقة تحت ضغط نفسي وجسدي دائم، ما ينعكس في نهاية المطاف على كفاءة إدارة الحرب نفسها.
صحيح أن حفرة الكرياه حصن محكم من الإسمنت، لكنها في جوهرها بيئة خانقة تستهلك من يعملون فيها ببطء. حيث تتضاعف الأعباء مع كل تصعيد عسكري على جنود الاحتلال، ما يكشف أن العمق الأمني الإسرائيلي فيه من الثغرات ما يكفي على عكس ما يحاول الاحتلال إظهاره بأنه مصدر قوة عصي على الانهيار.
الكاتب: غرفة التحرير