تُعتبر جبهتي الضفة الغربية والقدس، أهم رديف لجبهة غزة المشتعلة والتي دخل فيها العدو مرغماً مرحلة المناورة البرية، حيث أن العدو يركز منذ بداية معركة "طوفان الأقصى" على الضفة والقدس لأسباب جوهرية أهمها، عدم قدرته على قطع التماس مع القرى والمدن الواقعة في المنطقتين المتاخمتين لمركز الثقل الاستيطاني الصهيوني ومحور الكيان الغاصب، حيث تتركز مؤسساته العامة المدنية والعسكرية والامنية في بقعة متاخمة لا تتعدى مساحتها المجدية فعلياً 2500 كيلومتر مربع، وتتمتع القدس والضفة أيضاً بميزتين مهمتين:
الأولى: وجود كثافة بشرية فلسطينية مهمة لاستنزاف العدو شعبياً من خلال الحراك المدني أو من خلال التصدي لأي محاولات من العدو لإطلاق قطعان مستوطنيه على التجمعات المختلطة في الضفة الواقعة في المنطقة "باء".
الثانية وجود عدة قلاع فاعلة للمقاومة المسلحة التي تتعاظم قوتها يوماً فيوماً مع انخراط العدو في أزمات أمنية وعسكرية داخلية وخارجية.
فمنذ تحول الضفة إلى جبهة متكاملة للمقاومة بُعيد معركة سيف القدس، أصبحت تشكل الهاجس الامني الأكبر للعدو، وتعاظم هذا التركيز والاهتمام بالضفة والقدس بشكل كبير مع نجاح المقاومة الفلسطينية في غزة بإيهامه أنها ليست مستعدة بعد للحرب، وأنها في طور الاعداد والتجهيز، وكان ذلك أحد عناصر الخداع الاستراتيجي للعدو، الذي خلصت اختباراته ودروسه المستفادة بعد معركتي "وحدة الساحات" و"ثأر الاحرار" (التي ظن فيها العدو أنه استفرد بسرايا القدس إحدى القوى الرئيسية التي تمتلك بنياناً مقاوماً كبيراً في الضفة الغربية) أنه أصبح قادراً على التركيز على القدس والضفة بكل راحة، فانزلق سريعاً في عمليات كبيرة في الضفة كانت آخرها معركة "بأس الاحرار"، والتي كان من أهم نتائجها إظهار عجز وفشل العدو وتشجيع المدن الاخرى على سلوك مسلك جنين، وتطوير الاشتباك الشعبي والعسكري الدائم مع العدو، وهو ما رسخ جذوة المقاومة في نابلس المشتعلة أصلاً والخليل وطولكرم وبيت لحم وأريحا وطوباس فضلاً عن خزاني المقاومة في القدس مخيمي شعفاط وقلقيلية.
جاءت عملية "طوفان الأقصى" كاختبار جديد للضفة والقدس فكانتا رديفاً أساسياً في المعركة التي انخرطتا فيها سريعاً، وتمكنتا من فرض نمطهما الخاص في المواجهتين الشعبية والمسلحة، لترتفع عمليات المقاومة خلال أيام إلى مستوى غير مسبوق حتى في الانتفاضة الاولى وذلك من 903 أعمال مقاومة متفرقة (مسلحة وشعبية) في 10 أشهر إلى 1409 عمليات مقاومة متعددة (عسكرية ومدنية) خلال أقل من 20 يوماً، أي ما يعادل يومياً 23 ضعفاً من 3 عمليات يومية قبل طوفان الاقصى إلى 70 عملية يومياً بعد الطوفان. رفعت المقاومة مستوى تحدي العدو بما يتناسب مع قدراتها ومع واجبها تجاه معركة طوفان القدس واستباحة غزة من الطيران والمدفعية الاسرائيلية. ارتفعت نقاط الاشتباك إلى 316 نقطة في المحافظات العشر في الضفة وفي العاصمة القدس.
وسجلت أعمال المقاومة النوعية والشعبية 1653 عمل:
-إطلاق نار واشتباك: 393.
-إطلاق صواريخ: 2
-عمليات نوعية: 63
-مواجهات بأشكال متعددة: 951
-مظاهرات ومسيرات: 244
تكبد فيها العدو 40 اصابة بين قتيل وجريح أي بمعدل اصابتين يومياً. مؤخراً رفع العدو من حجم اعتقالاته الليلية حتى بلغت معدلاً يومياً بين 40 و60 معتقلاً وتبين أنها عمليات اعتقال طالت أربعة آلاف فلسطيني، وذلك لأهداف رئيسية:
-إبعاد من تشك اجهزة العدو الامنية بانتمائه لفصائل مقاومة عن الميدان.
-حجز الناشطين المدنيين ومنعهم من تنشيط الجماهير في قرى ومدن الضفة والقدس مباشرة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
- محاولة استخلاص معلومات فورية من المعتقلين عن نوايا المقاومة في الضفة وعن عمليات وشيكة.
-زيادة عدد السجناء للاستفادة منهم في عملية التبادل المرتقبة مع الاسرى اليهود في غزة.
أظهرت عمليات الاعتقال الليلية اليومية حجم الضعف في الاستخبارات الميدانية والتكتيكية للعدو حيث أن العمى الاستخباري شبه المطبق الذي واجهته في غزة تواجهه يومياً في الضفة والقدس، واللجوء إلى أسلوب "الاستخبارات البشرية" يعني أن هناك ضياعاً لدى أجهزة الامن عما يحضر في الضفة. لذا فهي تقوم كل 72 ساعة بمحاولة اختبار بعض القلاع الاساسية للمقاومة، حيث تلقت ضربات في طولكرم حيث قتل ضابط من وحدة المستعربين كما تلقت ضربة كبيرة في مخيم نور شمس الصغير جداً وفقد فيه ضابطاً وجندياً آخرين. ومؤخراً قام العدو بمحاولتي جس نبض لجنين ونابلس وطولكرم فووجه بضربات وعبوات جاهزة أو جهزت على عجل. مما فرض عبيه الانسحاب سريعاً بعد أقل من نصف ساعة.
مما تقدم ينبغي الاشارة إلى أن نجاح الضفة والقدس في المجابهة الندية للعدو تنطلق من أساسيتين:
أولاً: إدامة الاشتباك
حيث يعد استمرار الاشتباك وعدم قطعه مع العدو أحد أهم مؤشرات نجاح حرب العصابات الشعبية حتى بأطوارها الجديدة (الحرب الهجينة وحروب الجيلين الثالث والرابع)، من خلال إجبار العدو ذو العقيدة القتالية الكلاسيكية على القتال والاستنزاف المستمر التي تعتمد على البطش الشديد بمواجهة أنواع مختلفة من أساليب الاشتباك تتراوح بين الصاروخ والحجر مروراً بالسكين والرصاص وقنابل المولوتوف والعبوات القاتلة والمصنعة محلياً، في أكثر من اتجاه وميدان قتالي يتراوح بين الميدان الحضري والميدان الريفي.
كما أن استنزافه بأسلوب الحرب اللامتماثلة يفرض على العدو ويجره مرغماً إلى حرب دفاعية تصب في صالح الشعب الفلسطيني، لأسباب تتعلق بنمط الجاهزية والاستعداد لدى العدو الصهيوني الذي بنى قوته على عقيدة قتالية هجومية، تعتبر سرعة الحسم هدفاً استراتيجياً حيوياً ومقدساً، وتتعامل مع أي إطالة للمعركة على أنها تشتيت للجهد والطاقة تجر حتماً نحو الهزيمة، أو على الأقل تجعل القوة العسكرية الغاشمة والمتفوقة غير ذات فائدة بمواجهة قوى هلامية شبحية لا توقيت لخروجها الى الاشتباك ولا يمكن رصد حشدها لتقدير طبيعة عملها المتوقع، لأنها تظهر وتختفي في نقاط الاشتباك بأساليب تختلف عن أساليب الحشد والاستعداد القتالي في المعارك النظامية.
ثانياً: المحافظة على الهدف المعنوي
المس بهيبة العدو من خلال إبراز إمكانية تحديه وهزيمته، فحيث يعتبر عنصرا الهيبة والتظاهر بالقوة عاملي تفوق ضروريين عند العدو، يستخدمهما لرسم صورته القوية والقادرة والحاسمة، وإن كانت زائفة ومبالغ فيها لدى أعدائه، باعتبار أن الصهاينة هم أصحاب الجيش الذي لا يقهر. وبالمقابل تشكل إرادة التحدي أحد أهم عناصر البنية المعنوية لدى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وتشكل المواجهات الشعبية مجالاً حيوياً لممارسة الفلسطينيين هذه الارادة في التحدي من خلال:
-الحضور الجماهيري الشامل في زمن المواجهات.
-ارتفاع عدد نقاط الاشتباك (المدني والعسكري) الفلسطيني بنسبة 23 ضعفاً كما أسلفنا.
-تنويع أشكال الاشتباك المختلفة (إطلاق الصواريخ – العمليات الفدائية والإنغماسية المسلحة – الاشتباك المسلح – تفجير العبوات – الطعن والدهس – استخدام الحجارة والزجاجات الحارقة – المواجهة باللحم الحي وبالصدور العارية).
-نوعية العناصر التي تمارس الاشتباك:
- الشباب ذكوراً وإناثاً
- الأطفال
- كبار السن والعجائز
- الفعاليات الاجتماعية والثقافية والنخبوية المختلفة
- الرموز والنماذج الثورية التي تتراوح بين نموذج المقعد صاحب الهمة الجبارة والنفس الثوري الكبير ونموذج الأسيرة الشجاعة والمشاكسة ونموذج الأسير الطفل– ونموذج الشهيد الاستشهادي والمشتبك، ونماذج متعددة (الشيخ الكبير والمرأة الحامل والمراسل الصحافي الشجاع الذي يخوض المخاطر ويتعرض للاعتداء من أجل نشر الحقائق والوقائع اليومية الميدانية).
وتعتبر عناصر إرادة التحدي هذه واضحة وظاهرة بقوة وتفرض نفسها يومياً في الضفة والقدس من خلال عدم الانكفاء أمام القوة الصهيونية الغاشمة.
خلاصة واستنتاج:
ولطالما سعى الصهاينة في كل معاركهم إلى كسر إرادة القتال والتحدي عند عدوهم بسرعة باعتبارها عنصر مبادأة يجب امتلاكه سريعاً في بداية المعركة، والحفاظ عليه في شتى الظروف وحتى نهاية المعركة، لأن خسارته تعني للصهاينة الدخول في دوامة من العبثية وإعطاء عدوهم صورة خطيرة جداً في العرف الصهيوني، وهي أن الصهاينة وكيانهم المدجج قابلين للهزيمة والتحدي وهذا يعني حكماً فقدان الهيبة وفشل تأثير التظاهر بالقوة.
إن الاحتفاظ بعناصر إدامة الاشتباك والمحافظة على الغرض ومس هيبة العدو تعتبر شروطاً ضروريةً للانتقال بالحراك المدني والانتفاضي والمسلح في الضفة الغربية والقدس إلى مستوى أعلى، كما أن تعزيز عناصر الحماية للحراك وعدم السماح للقوى المضادة بالتأثير على المسار الذي ينحو به الثوار الفلسطينيون، يجعل استشراف المستقبل أكثر وضوحاً، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أننا دخلنا مرحلة بعد "طوفان الأقصى" مرحلة جديدة سيستخدم المقاومون الفلسطينيون فيها كل أوراقهم، والتي يتربع على قائمتها خيار نقل العمل المسلح من الضفة الغربية والقدس إلى كل فلسطين التاريخية والذي سيكون نقطة تحول رئيسية على طريق التحرير الكبير.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا