"الصور التي ترونها على التلفزيون ترونها مرة بعد مرة، بعد مرة، بعد مرة. وهي اللقطة نفسها لشخص ما يخرج من مبنى ما حاملًا مزهرية، ترونها عشرين مرة، وتفكرون: "يا سلام، أكانت هناك مزهريات بهذه الكثرة" (الحضور يضحك) أيمكن أن يكون هناك مزهريات بهذه الكثرة في البلد كله؟" يقول دونالد رامسفلد.
بعد أقل من شهر على غزو العراق، ذاعت أنباء السلب التي تعرضت لها بغداد في وسائل الإعلام العالمية. وفي المؤتمر الصحافي الذي عُقد في وزارة الدفاع الأمريكية ذلك اليوم، عمد دونالد رامسفيلد إلى إسباغ أجواء رومنطيقية على الحدث، زاعمًا أن المشاهد تُظهر "العراقيين المحررين وهم يحتفلون بحريتهم الجديدة". وحين تساءل أحد الصحفيين ما إذا كانت "الفوضى في بغداد ستمحو الإرادة الطيبة التي بثتها الولايات المتحدة"، جاء جواب رامسفيلد مقطعًا كوميديًا صار يُعرَف فيما بعد بـ "التعليق المزهري" وهو التعليق أعلاه. للدلالة على عمليات التضخيم الإعلامي. وحين واصل الصحفيون طرح الأسئلة عن عمليات السلب قال بلهجة صاخبة، "إنّ الأحرار أحرار في ارتكاب الأخطاء، واقتراف الجرائم، وفعل أمور سيئة".
في ذلك اليوم، تعرض المتحف الوطني، رمز الحضارة العراقية، للنهب، وتمت سرقة المباني الوزارية، وقطع الطرق العامة. تمت الإطاحة بنظام صدام حسين، واختفت قوات الجيش والشرطة. في المقابل، كانت الدبابات الأمريكية تحمي وزارة النفط والبنك المركزي العراقي، التي أستولت عليها بموجب مذكرة تحت عنوان حماية النفط والنقد.
مذكرة: مصادرة بعض الممتلكات العراقية والاستيلاء عليها
"أنا، جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أقرر بموجب هذا أن الولايات المتحدة والعراق متورطان في أعمال عدائية مسلحة، وأنه من مصلحة الولايات المتحدة مصادرة بعض ممتلكات حكومة العراق وممتلكاتها. الوكالات أو الأجهزة أو الكيانات الخاضعة للرقابة، وأن جميع الحقوق والملكية والمصلحة في أي ممتلكات تمت مصادرتها يجب أن تؤول إلى وزارة الخزانة. أعتزم استخدام هذه الممتلكات المكتسبة لمساعدة الشعب العراقي وللمساعدة في إعادة إعمار العراق، وتحديد أن مثل هذا الاستخدام سيكون في مصلحة الولايات المتحدة ومصلحتها". كان ذلك مقطع من مقدمة وثيقة رئاسية تحت عنوان "مصادرة بعض الممتلكات العراقية والاستيلاء عليها" (الأمر التنفيذي 13290 بتاريخ 20 مارس 2003).
تستمر الولايات المتحدة حتى اليوم بالاستيلاء على عائدات النفط وجميع احتياطيات وأموال البنك المركزي العراقي، في عملية يتمّ تجديدها كل سنة، بطلب من الحكومات العراقية. كان الكاظمي سعيدًا جدًا أن الإدارة الأمريكية لن ترفع حصانتها عن تلك الأموال، عندما زار بايدن عام 2021، تحت حجة هناك الكثير من طلبات الدائنين سواء حكومات أو قطاع خاص التي تنتظر تلك الخطوة من جانب المنظمة الدولية لكي تقوم بالحجز على تلك الأموال من أجل استيفاء حقوقها المادية، إذ هناك الكثير من الأحكام القضائية بالحجز تنتظر رفع الحصانة لكي تستولي على أموال عراقية، ليس بالضرورة أموال نقدية فقد تكون عقارات وأراضي.
إلى ذلك، الحصانة المفروضة من الجانب الأمريكي ليست على أرصدة ثابتة، إنما أيضا على أموال دورية، حيث تصل مبيعات النفط الشهرية إلى ما يقارب ستة مليارات دولار، توضع تلك المبالغ في البنك الفيدرالي، ويتم تحويلها إلى البنك المركزي العراقي لكي يتم تمويل الخطط الحكومية المنصوص عليها في الموازنة، حيث أموال البنك المركزي العراقي محمية بواسطة البنك الاحتياطي الفيدرالي، كون المركزي العراقي مؤسسة مستقلة، وفق القوانين الدولية بعد العام 2003.
من سرق الذهب؟
بدلًا عن مخازن الأسلحة السرية الأمريكيون، تفاجأ الجنود والضباط الأمريكيون بمخابئ الذهب والأموال، من بين كنوز الذهب التي اكتشفها جنود البحرية الأمريكية، شحنة تتكون من 2000 سبيكة، زنة كل منها 18 كيلو غرام، وتبلغ قيمتها في ذلك الوقت 500 مليون دولار، عُثر عليها داخل شاحنة في مايو من عام 2003 قرب مدينة القائم على الحدود العراقية مع سوريا.
وبعد أيام من هذه الحادثة، عثر الجنود الأمريكيون أثناء تفحّص شاحنة متهالكة بنقطة تفتيش في منطقة كركوك شمال العراق على 1000 سبيكة من الذهب تبلغ قيمتها 350 مليون دولار. وفي هذه المرة أيضا ادعى السائق أن أصحابها دفعوا 300 دولار نظير نقل "البضاعة" إلى مدينة كركوك، وأنهم قالوا أثناء شحنها إنها قضبان من النحاس. وقد أفاد ضابط أمريكي أن السبائك التي عثر عليها لم تكن تحمل ختما رسميا، وتبدو قد صهرت على عجل في سبائك تزن 10 كيلو غرامات، وأنها نُقلت إلى قاعدة عسكرية قرب المدينة إلى حين البت في أمرها.
وبعد وقت قصير أعلن الأمريكيون أن جنودهم عثروا داخل شاحنة في نفس المنطقة على 1183 سبيكة من الذهب قيمتها تصل إلى 700 مليون دولار. ولم تنته مثل هذه الصدف الحسنة، حيث عُثر في يوليو من نفس العام الذي بدأ فيه غزو العراق على سبائك من الذهب تبلغ قيمتها 90 مليون دولار داخل صهريج لنقل النفط أثناء عملية تفتيش روتينية في طريق بمدينة الحلة جنوب العاصمة بغداد.
الكثير من الصور التي وثقت جنودًا أمريكيين مستبشرين بين سبائك الذهب العراقية، قبل أن يتم تداول أنه تم نقل سبائك الذهب العراقية (وكذلك العملات والأشياء الثمينة الأخرى) إلى مقر الجيش الأمريكي في الكويت بموجب مذكرة الاستيلاء. هناك، تم فحصهم من قبل الخدمة السرية ووزارة الخزانة الأمريكية لتحديد مدى صحتها وقيمتها، قبل الادعاء بإعادتها إلى الخزانة العراقية المركزية أو صندوق تنمية العراق الذي تستولي عليه الولايات المتحدة أيضًا. ولا أحد يعلم كمية الذهب التي أعيدت أصلًا، خاصة أنه في مطلع شهر أغسطس/ آب من عام 2003، تداولت وسائل الإعلام تقريرًا يقول إن السبائك التي عثر عليها الأمريكيون في العراق، لم يكن جميعها من الذهب، وأن أكثر من 1000 قطعة كانت مسبوكة من النحاس والزنك. وبعد هذا التاريخ توقف الحديث عن اكتشاف مخابئ الذهب ومخابئ الملايين من العملات الصعبة والمحلية.
نهب العراق تحت عنوان إعادة الإعمار
ساهمت أمريكا أيضًا في إطلاق سلسلة كبيرة من عمليات الفساد كبيرة الموثقة زمن الاحتلال، والأمثلة على ذلك كثيرة:
- أنشأ قرار مجلس الأمن رقم 1483 صندوق تنمية للعراق بقيمة 20 مليار دولار باستخدام الأصول العراقية التي تمَّ الاستيلاء عليها سابقًا، والأموال المتبقية في برنامج الأمم المتحدة (النفط مقابل الغذاء) وعائدات النفط العراقي الجديدة، ووجدت مراجعة أجرتها شركة KPMG ومفتش عام خاص، أن نسبة كبيرة من تلك الأموال قد سُرقت أو اختلسها مسؤولون أمريكيون وعراقيون.
- بول بريمر، رئيس سلطة الاحتلال، احتفظ لنفسه بصندوق قيمته 600 مليون دولار دون أي أوراق تخصّ الصندوق أو مصاريفه، كما ضاعف ضابط بالجيش الأمريكي سعر عقد إعادة بناء مستشفى، وأخبر مدير المستشفى أن الأموال الإضافية هي "حزمة التقاعد".
- دُفع لمقاول أمريكي 60 مليون دولار على عقد قيمته 20 مليون دولار لإعادة بناء مصنع للأسمنت، وقال للمسؤولين العراقيين إنهم يجب أن يكونوا ممتنين لأن الولايات المتحدة أنقذتهم من صدّام حسين.
- فرض أحد مقاولي خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة مبلغ 3.4 ملايين دولار مقابل أجور عمّال غير موجودين و"رسوم أخرى غير مناسبة".
في المحصلة، من بين 198 عقدًا راجعها المفتش العام -فيما يخص ملف إعادة الإعمار-، لم يكن هناك سوى 44 عقدًا بوثائق لتأكيد إنجاز العمل.
التعليق المزهري
استخدم الإعلاميون الأمريكيون "التعليق المزهري" في تفسيراتهم لعمليات النهب في العراق، ومنهم من استخدمها لتفسير التعتيم والتضليل الإعلامي. فحين سُئل الجنرال فِنسنت بروكس عن مسؤولية الولايات المتحدة عن أعمال السلب بأنها جرت على مرأى من قوات التحالف، أجاب بحدة: "السلب تمّ على يد العراقيين، هذه هي النتيجة الحاسمة، الحقيقة أنه جرى على مرأى من الشعب العراقي". وهكذا بات مصير التحف والكنوز الحضارية العراقية محكومًا بتقبّل "أنّ هناك أناسًا أحرارًا يفعلون أمورًا سيئة"، وليس بواقع المسؤولية القانونية المترتبة على قوات الاحتلال في القانون الدولي، والتي يترتب بموجبها على قوات الاحتلال حماية تراث الدولة المحتلة من السرقة. كل ما فعله الأمريكيون هو التشجيع على مواصلة السلب وغض النظر من قوات التحالف الذي أخذ يسمي كل عراقي "علي بابا"، في دلالة على اللصوصية، بهدف التغطية على أعمال النهب والسلب الأكبر، تحت عناوين إما الحماية أو إعادة الإعمار. الواقع أنه لا يُتوقّع أقل من ذلك من الدولة التي أصبحت عظمى بفضل النهب.
الكاتب: زينب عقيل