يجري تداول العلاقات الإيرانية العراقية في الإعلام المعادي على أنها تدخّل إيران الأقوى في شؤون العراق الأضعف، وهي سردية قائمة على التحريض الإعلامي على الوجود الطبيعي لإيران في العراق، فحضور إيران في العراق هي حضور طبيعي بالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الحيوي للجمهورية الإسلامية وتأثير طهران الواسع بين الفصائل السياسية العراقية بفعل التشابك الثقافي والعشائري والاقتصادي منذ آلاف السنين. في حين تركز واشنطن باستمرار على ميزان القوى في المنطقة بتعطيل معادلات القوى الطبيعية. وأي محاولة لتعريف إيران كمصدر لانعدام الأمن لن تكون في مصلحة الدولة العراقية، واليوم يجري تعطيل النظام الاقتصادي للعراق بحجة هذه السردية، بعدما أعلن البنك الفيدرالي الأمريكي قرار الرقابة المشددة على التحويلات المالية، إذ أوقف الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة مؤقتًا تدفق مليارات الدولارات إلى البنك المركزي العراقي بسبب ادعاءات أن العملة كانت ستذهب في نهاية المطاف إلى البنوك الإيرانية.
بصرف النظر عن أي تغيير محتمل في التوجه والتصور والسلوك من قبل الأطراف الإقليمية تجاه أدوار ومشاركة بعضها البعض، فإن ترتيب توازن المصالح في العراق يتطلب فهمًا بل اعترافًا من جميع الأطراف بالدور الإيراني كدور طبيعي يحقق التوازن، وهو الأمر الذي يصرّ الغرب على تجاهله وإثبات عكسه. فليست إيران من يستخدم العراق لمصالحه بل إنها الولايات المتحدة التي تستخدم العراق لضرب إيران.
ثمة أساطير حول علاقة إيران بالعراق، أولها الفكرة المستمرة بأن البلدين مصممان بطريقة ما على التنافس. إن الفكرة القائلة بأن العداوات الجيوسياسية القديمة تؤكد العلاقات بين الدول الحديثة في إيران والعراق هي فكرة خاطئة. التوترات في العلاقات الإيرانية العراقية الحديثة ليس لها علاقة تقريبًا بالمنافسة العثمانية الفارسية على بلاد ما بين النهرين أو الاختلافات الدينية والأيديولوجية بين السنة والشيعة، على الرغم من أن كلا الجانبين قاما بشكل روتيني بنزع صفحات من كتب التاريخ لتبرير نشوئها. لذلك، يتطلب الكشف عن تعقيدات العلاقات الإيرانية العراقية المعاصرة قبول حقيقة أن التوترات بين البلدين ليست متجذرة بل سببها دقّ الاسافين بين البلدين في التاريخ الحديث. هذه فكرة خاطئة لا يعوّل عليها في العلاقات الدولية. وقد أثبتت التجارب العكس تمامًا منذ العام 2003. ليس ثمة تنافس ولا حتى سيطرة، بل ثمة توازن يمكن تحقيقه إذا تُرك العراق لحاله ولحيثياته الطبيعية، التي يمكن اختصارها في النقاط التالية:
علاقة توازن جدلية بين البلدين
ثمة مصالح مشتركة وتوافقات جيوسياسية للبلدين، بحيث أن إيران لا يمكن أن تبني الإطار الأمني في المنطقة وحدها من دون تعاون ومشاركة العراق. ولا يمكن تحقيق توازن مستدام من دون بناء الترابط السياسي والأمني والاقتصادي بين البلدين.
الغزو الأمريكي للعراق جعل إيران والعراق عن غير قصد منفعة غير متوقعة لبعضهما البعض، وهي علاقة توازن جدلية بين البلدين، فوقوع العراق تحت احتلال قوة معادية لإيران، ووجود أطراف إقليمية تحاول تكريس النفوذ الأمريكي في العراق والمنطقة عبر مكونات عراقية عرقية وسياسية، تجعل من الحضور الإيراني ثقلًا يحقق التوازن. وبدون هذا الحضور لن يتحقق الأمن القومي لكلا الشعبين الإيراني والعراقي آنيًا ومستقبليًا ومصيريًا.
الحضور الإقليمي الطبيعي لطهران وواشنطن هي القوة الدولية البعيدة
نظرًا لمعطيات الانسحاب الشكلي للأمريكيين من العراق، ومن ثمّ العودة إلى تعزيز قواتهم، لم يعد خافيًا على أحد أن هذا الوجود إلى جانب التعدي على سيادة العراق عبر حجج غير واقعية يستهدف إسقاط طهران ويتخذ من العراق منصة، وعليه وجب على طهران أن تحضر في العراق ليس فقط للدفاع عن نفسها بل لمساعدة العراقيين لمواجهة هذا الاحتلال واستعادة السيادة، وإن بدت حربًا بين طهران وواشنطن على الأرض العراقية لتحديد النفوذ الإقليمي، خاصة أن طهران هي التي تحضر في الإقليم بشكل طبيعي وواشنطن هي القوة الدولية البعيدة التي تستخدم قوتها الإمبريالية للحفاظ على استثماراتها في المنطقة، فوجودها فيها غير طبيعي وخارج السياق التاريخي والجغرافي والثقافي للمنطقة ككل.
هما الجارتان الأكثر أهمية لبعضهما البعض من الناحية الجيوسياسية
إيران ليست بحاجة إلى ثروات العراق لكن هي تتعامل مع أسواقه، إذ يمتد البلدان على بقعة جغرافية تتكامل فيها الثروات من خلال التبادل الجيواقتصادي والتعاون الاستراتيجي لكلا البلدين، فإيران والعراق هما الجارتان الأكثر أهمية لبعضهما البعض من الناحية الجيوسياسية وتشكل كل دولة بوابة للأخرى على شرق وغرب آسيا.
التعاون المشترك كلّ بحسب تشخيص مصلحته
لا يمكن الإنكار بأن العلاقة حاليًا مختلة بين البلدين، فالعراق بعد صدام حسين واقعًا هي دولة لم تحقق الاستقرار بعد حتى يتم تحقيق الاستقرار في العلاقات بينها وبين جيرانها، خاصة وأنها كما تحدثنا مسرح الصراع الذي اتخذته الولايات المتحدة لمحاربة إيران، وعليه لا يمكن الحكم على طبيعة العلاقة بين إيران والعراق على أساس جدلية علاقة القوي بالضعيف، فالاحتلال الأمريكي هو الذي أضعف العراق، وليست إيران هي التي تتعامل مع العراق بمنطق الدولة الأقوى، وما قرارات البنك المركزي الفيدرالي إلا غيض من فيض عمليات التدمير الممنهج للبنية العراقية الاقتصادية. وهو الأمر الذي تفعله واشنطن مع إيران. ولذلك فالمواجهة تحتاج إلى علاقة متوازنة تفيد الطرفين في تخفيف المخاطر ومواجهة التحديات والأزمات.
وفي ظل الأوضاع السياسية المحلية التي لا يمكن التنبؤ بها في كل دولة من دول الإقليم، فإنه من غير المرجّح أن يتمكّن أي من الطرفين أن يتّبع سياسة متماثلة تجاه جارته، خاصة وأنه ليس ضروريًا التماثل والتكافؤ في العلاقات بين الدول، بل التعاون المشترك كلّ بحسب تشخيص مصلحته.
العراق يحتاج إلى تعاون إيران الممتدة داخل العراق
لحماية المصالح الوطنية لكلا البلدين، يجب على إيران دعم العراق لإقامة حكومة مستقلة، كما يجب عليها مساعدة الحكومة العراقية لتحقيق الأمن الاجتماعي وبناء الاستقرار، والواقع أنّ العراق يحتاج إلى تعاون إيران الممتدة داخل العراق من خلال المكون الشيعي لتحقيق الأمن والاستقرار، خاصة أن علاقات إيران مع المكونات العراقية الأخرى هي علاقات تعاون وتنسيق وهي تسعى دائمًا إلى تطوير علاقاتها مع الجميع.
ثمة سردية أن إيران قد صنعت قوة عسكرية وسياسية شيعية في العراق لزيادة قوتها ونفوذها في المنطقة، والواقع أن هذه القوة الشيعية تستخدمها إيران لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق نفسه، وذلك بغض النظر عن اعتبارات أهمية هذه الفصائل في مواجهة المشروع الأمريكي في المنطقة تحت لواء محور المقاومة، والذي بدوره -أي المشروع الأمريكي- قائم على تفخيخ الأنظمة العربية من الداخل وإذكاء الصراعات، والشواهد على هذه الممارسات الأمريكية التخريبية في العراق موجودة.
توازن قائم بين القوة الإيرانية والقوة الأمريكية
كانت نظرية توازن القوى قابلة للتطبيق على علاقات القوة القائمة بين إيران والعراق. بعد الإطاحة بصدام حسين، تحاول الولايات المتحدة إيجاد بديل لهذا النظام من أجل موازنة القوة المتزايدة لإيران. تتحدث الولايات المتحدة في الخطابات السارية لدى صانعي السياسات الأمريكية عن المملكة العربية السعودية وإسرائيل كبديلين عن النظام البعثي، والواقع أنه ثمة توازن قائم بين القوة الإيرانية والقوة الأمريكية ليس فقط داخل العراق، بل على الصعيد الإقليمي بشكل عام.
إيران غير محتاجة للتواجد العسكري والأمني في العراق بعكس واشنطن
طبيعة العلاقات التاريخية بين البلدين والبنى التحتية والثقافية والاجتماعية التي تقوم عليها، تجعل إيران غير محتاجة للتواجد عسكريًا في العراق، فالعلاقات هذه طبيعية ومتوازنة ومتجذرة تاريخيًا، على عكس الحضور الأمريكي الذي لا يستطيع الاستمرار دون حضور عسكري وأمني مباشر.
وجود الأمريكيين في العراق هو سبب اختلال طبيعة العلاقات السيادية بين إيران والعراق
يتضح لدينا مما سبق أن وجود الأمريكيين في العراق هو سبب اختلال طبيعة العلاقات السيادية بين إيران والعراق، ولا وجود لأي منطق إيراني ينظر إلى العراق كهدف يجب احتواؤه في المنطقة. وللحصول على تداول أوسع لهذه السردية وتوجيه الخطاب الإعلامي بمنطق النقاط أعلاه، فإنه من الضروري تأسيس صياغة مفاهيم تأسيسية للعلاقات المتوازنة: مثل حضور إيران الطبيعي في المنطقة وأن الولايات المتحدة قوة خارجية، واستخدام مصطلح اختلال العلاقة بدلًا من عدم التوازن، وغيرها. كما أنّ التحليلات الإعلامية للسردية الأمريكية وتفنيدها سيكون مفيدًا جدًا في واقع العلاقات بين البلدين.
الكاتب: زينب عقيل