يشهد العالم حاليا العديد من التحولات العميقة نتيجة النمو المتسارع في حجم المعلومات، والتي أدت إلى ظهور أشكال جديدة من العلاقات والنشاطات المختلفة، وتعد التكنولوجيا الحديثة من أهم الركائز الأساسية لتحقيق التنمية المتوازنة للمجتمع في جميع المجالات، وأساس الحضارة المعاصرة. وتعتبر الحرب الناعمة، إلى جانب الحرب السيبرانية، جزءاً أساسياً من حروب اليوم، والتي تأتي في طليعة أدوات الإرغام الأميركية.
القوة الناعمة
يستخدم مصطلح القوة الناعمة على مستوى العلاقات الدولية، كمفردة تحليلية مركزية في فضاء السياسات الخارجية والدولية لأميركا ودورها في قيادة العالم، فقد نشأت الفكرة في تسعينات القرن الـ20 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث "تطور هذا الاصطلاح ومرّ بثلاث محطات: المحطة الأولى سنة 1991 أي بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وشعور الأميركيين بنشوة النصر في الحرب الباردة وتسلمهم زعامة العالم، حينها أصدر جوزيف ناي كتابه الأول "مفارقة القوة" ومن ثم أتبعه على أثر هجمات 11 أيلول العام 2001م بإصدار كتابه الثاني "ملزمون بالقيادة" وتوّج مشروعه في كتابه الشهير "القوة الناعمة SOFT POWER" في العام 2004م بعد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق".
وقد عرَّفت وزيرة خارجية أميركا الحالية هيلاري كلينتون القوة الذكية بأنها "تسخير كل الأدوات التي تتوفر لدى الولايات المتحدة الأميركية سواء الإقتصادية والعسكرية والسياسية والقانونية والثقافية والإعلامية، والبحث عن الأداة الملائمة من بين هذه الأدوات بما يتناسب مع كل وضع دولي". والتطبيقات الأميركية لنظرية القوة الناعمة كانت دائمًا مركبة، وعبارة عن خلطة اندماجية بين مجموعة عناصر وسياسات مأخوذة من القوتين الصلبة والناعمة، وخاصةً بحسب الحزب الذي يترأس البيت الأبيض، وكان يجري هندسة النسب والحصص المخصصة لكل قوة بين الأذرع التنفيذية الأميركية.
أما الحرب الإلكترونية أو السيبرانية Cyber Warfare هي حرب غير معلنة، وهي من أبرز معالم الصراعات السياسية والأمنية والاقتصادية وحتى العسكرية في جوانب معينة بين الدول. وقد بات من الصعب اليوم تخيل صراع عسكري من دون أن يكون لهذا الصراع أبعاد إلكترونية سيبرانية، وأصبحت في صلب اهتمامات الأنظمة الدفاعية لأي صراع يمكن أن يطرأ في المستقبل. وتعتبر من وسائل التخريب اللاعنفية ويدخلها البعض في سياق الحروب الهجينة.
يعد هذا الشكل من الحروب الصامتة، وهنا من المهم فهم الفلسفة الكامنة في طبيعة القدرات المعلوماتية والإلكترونية، نظراً لأن الجهات الفاعلة في البلدان الشرقية والغربية لها نظرة مختلفة. فالعمليات السيبرانية التي يتم إجراؤها من الغرب تابعة للحكومات والجيوش.
ويعتبر البعض أن "ما وصلت إليه الحروب البشرية اليوم، هو ما يسمى بحروب الجيل الخامس التي تعتمد على خلق تناقضات بين السلطة والمجتمع في دولة ما، وذلك باستغلال الوسائل كافة، ويقول أحد المحللين إنّ الجيل الخامس يعتمد في استراتيجيته على احتلال العقول لا الأرض، وبعد احتلال العقول يتكفّل المحتل بالباقي، فهو يستخدم العـنـف غـيـر المـسلـح، مـسـتـغلًا جـمـاعـات عـقـائـديـة مـسـلـحـة، وعـصـابـات الـتـهـريـب المنظمة، والتنظيمات الصغيرة المدرّبة، من أجل صنع حروب داخلية تتنوع ما بين اقتصادية وسياسية واجتماعية، بهدف استنزاف الدولة المستهدَفة ووضعها في مواجهة صراعات داخلية، بالتوازي مع التهديدات الخارجية العنيفة.
إذاً، فقد أدى التطور في إستخدام التكنولوجيا الحديثة إلى نقل الصراعات على الساحة العالمية من الأرض إلى الفضاء الإلكتروني، وبات الفضاء الإلكتروني بذلك ساحة جديدة للصراع وفرض الهيمنة، فيما تحولت الحروب الإلكترونية إلى حالة تهديد للأمن القومي للدول، خاصةً أنه تزايد الهجمات الإلكترونية بين الفاعلين الدوليين وغير الدوليين خلال العقدين الأخيرين.
إيران والحرب السيبرانية
الأحداث الأخيرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تظهر كيف تستهدف الولايات المتحدة الأميركية الدول الرافضة لسياساتها، وكيف تعمل على تقويض الأمن القومي للدول من الداخل، وعلى سبيل المثال فإنه عقب قضية مهسا اميني، أعلن إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركة "سبيس إكس"، عن تفعيل "ستارلينك" للإنترنت عبر الأقمار الصناعية في استجابة لتغريدة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة تتخذ إجراءات "لتعزيز حرية الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات" للإيرانيين. وأصدرت وزارة الخزانة الأميركية توجيهات بتوسيع خدمات الإنترنت المتاحة للإيرانيين على الرغم من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، علما أن الشركة أتاحت الشركة نفس الخدمة للأوكرانيين في حربهم ضد روسيا.
ومنذ 2019 بدأت الولايات المتحدة تأخذ عقيد أكثر عدوانية في الحرب السيبرانية، التي تتواجه فيها خصوصاً مع الصين وروسيا وإيران ومنافسين آخرين، كما أن جزءاً كبيراً من الأزمة في إيران، هي نتيجة الشائعات والدعايات والأخبار الكاذبة التي بثت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتأجيج الشارع الإيراني، فاستراتيجية واشنطن السيبرانية التي تعمل من خلالها على تقويض أمن إيران، والتي تستخدم فيها ايضاً مواقع التواصل الاجتماعي، هي استراتيجية تعرف بالاستراتيجية "أكثر عدوانية في الفضاء الإلكتروني"، وتصب في العقيدة الأميركية القائمة على استهداف الدول ومحاصرتها من خلال أدوات الإرغام.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع