حظيت السفيرة الأمريكية دوروثي شيا بمتابعة فريدة من الشعب اللبناني لم يحصل عليها سفراء الدول الأخرى في لبنان باستثناء السفير السعودي وليد البخاري، وهذا لم يكن بفعل عمق العلاقة الجيدة بين الولايات المتحدة ولبنان بل بسبب تنفيذ شيا لأجندة البيت الأبيض في بيروت وتدخلها في تفاصيل شؤونها الداخلية منتهكةً سيادتها، ومتجاوزةً كلّ الأعراف الدبلوماسية والاتفاقيات الدولية (وأهمها "جنيف") التي تحدّد بدقة دور ونشاط البعثات الدبلوماسية في البلد المضيف.
قررت السفارة الأمريكية في بيروت أن تذكر مرور ستة أشهر على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عبر تغريدة على منصة "تويتر" نشرت فيها العلمين اللبناني والأوكراني زاعمةً التضامن مع كييف ضد "النظام الروسي". لكن الحقيقة التي تكشف زيف الادعاءات الأمريكية تظهر في أرض الواقع، ففي أوكرانيا كان لواشنطن الدور الأكبر في تحريض الرئيس فولوديمير زيلينسكي في اختراق الاتفاقيات الموقّعة بين بلاده وموسكو وفي تقاربه من حلف "الناتو"، كما غذّت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الحرب بدعمها المالي واللوجستي وإرسال الجنود المقاتلين.
أمّا في لبنان فمتى اكترثت السفارة الامريكية بعلم البلد ورمزيته وشيا تتنقل من مسؤولٍ سياسي لبناني الى آخر للاستقصاء حول مستجدات الاستحقاق الرئاسي المقبل و"البحث" في الاسماء المقترحة وتزكية واحد و"رفض" آخر، مبديةً رأيها بأن "لا مصلحة للبلد في ترحيل انتخاب رئيس جمهورية جديد". ففي منتصف شهر آب / أغسطس الجاري التقت شيا برئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لاستطلاع مواقفهم وجمع معلومات حول المرشحين لرفع التقارير الى الجهات المسؤولة عن الملف اللبناني في إدارة البيت الأبيض.
شيا التي "احتفلت" في أواخر شهر تموز / يونيو الماضي بإنارة بعض القرى عبر مشروع كهرومائي لتوليد الكهرباء في مناطق الشوف – عاليه، قد مرّت سنة كاملة على "وعدها" باستجرار الغاز المصري الى لبنان دون أن يحصل البلد على الساعات الإضافية من الطاقة الكهربائية بسبب حصار إدارتها عبر ما يسمى "قانون قيصر" ووضعها "الفيتو" الذي يمنع لبنان من الاستفادة من عروض الشرق والغرب قبل أن يقدّم تنازلات سياسية ويُرتهن الى البنك الدولي.
وفي أيار / مايو الماضي خلال فترة الانتخابات النيابية وما قبلها كثّفت السفارة الأمريكية من نشاطها بين المناطق اللبنانية لتشكيل اللوائح ودعم جماعات (لا سيما ممثلي المنظمات غير الحكومية) وتسمية المرشحين وجمع أطراف سياسية مع بعضهم البعض بهدف الزّجّ بنوابٍ في المجلس الحالي وخلط الأوراق السياسية في البلد ومواجهة فريق لبناني آخر هو حزب الله وحلفائه.
كذلك تلتقي شيا بشخصيات عسكرية وأمنية كما دينية لبنانية، وفي تحرّك في شهر / تموز العام الماضي وصفته الأوساط اللبنانية بـ "سابقة دبلوماسية ناشزة لا مثيل لها لبنانياً وربما عربياً"، سافرت شيا الى جانب السفيرة الفرنسية في بيروت، آن غريو، في زيارة مشتركة إلى العاصمة السعودية الرياض وذلك "لبحث الوضع السياسي والاقتصادي اللبناني مع المسؤولين السعوديين". وفي سابقة من نوع آخر عايدت شيا اللبنانيين المسلمين بحلول شهر رمضان الماضي، وخلال فترة انتشار جائحة "كورونا" وقفت شيا عند النقاط العسكرية للجيش اللبناني وعند الحواجز ووزعت الكمامات على المارة، كما وقفت لتصوير مقطع فيديو أمام مطار بيروت الدولي للتسويق لتقديمها لقاحات ضد الفايروس تبيّن فيما بعد أنها منتهية الصلاحية.
كلّ ذلك، بالإضافة الى اتخاذ الولايات المتحدة اليوم طرفاً في المفاوضات بين لبنان وكيان الاحتلال عبر الموفد الأمريكي لترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلّة، وغضّ الطرف عن الاعتداء الإسرائيلي على ثروة لبنان في المنطقة المتنازع عليها بل والعمل لأجل تحسين شروط الاحتلال.
لم تكن شيا هي الوحيدة في انتهاك سيادة لبنان، فقد مشت على خطى المسؤولين الأمريكيين وأهمهم رئيس الخارجية السابق مايك بومبيو، والسفير الأمريكي الأسبق (2004 – 2008) جيفري فيلتمان ومستشار الرئيس الامريكي السابق هينري كسينجر في إدارة الغرف السوداء ووضع المخططات للعبث بأمن واستقرار ومستقبل لبنان.
الكاتب: غرفة التحرير