إن من أهم الحكم العسكرية القديمة، أن لا يستهين أي طرف بقدرات عدوه والتقليل من قوته، لكن الحكمة تقتضي أيضاً، أن يصمم هذا الطرف على هدف هزيمة عدوه عبر الإعداد والتخطيط فالتجهيز، بالتوازي مع دراسة عناصر القوة والضعف عند العدو، وتقوية عناصر القوة عنده. كما أن على كل قائد عسكري، أن يرسم سيناريوهات واحتمالات المواجهة المستقبلية مسبقاً بما يسمى "المحاكاة"، عبر تجهيز الأسلحة والتكتيكات المناسبة، ليصل إلى توازن ردعٍ بين الطرفين.
صحيح أن لكيان الاحتلال الإسرائيلي، جيش عسكري محترف، لديه عناصر قوة كبيرة، من أسلحة جو وبر وبحر متطورة، مزودة بترسانة ضخمة من أحدث أنواع الأسلحة الأمريكية المتقدمة، بالإضافة إلى أقمار صناعية تجسسية، وأجهزة مراقبة متنوعة، كما تتزود قواه بوسائل حرب الكترونية، مدعمة بمنظومات دفاع جوي وصاروخي. لكن عناصر قوته خارجية أكثر، فهو يعتمد بشكل رئيسي على الدعم اللامحدود، الذي تقدمه له الولايات المتحدة الأمريكية.
والدعم الأمريكي لهذا الكيان يشمل كل المجالات، من المعونة العسكرية السنوية، إلى جسور الإمداد اللوجستي الجوي، والتنسيق العسكري المشترك عبر القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى، وليس انتهاءاً بمنع تزويد أي طرف في المنطقة، بأسلحة أمريكية نوعية تسلبه التفوق العسكري.
مع ذلك فإن "إسرائيل" هذه ورغم كل قوتها العسكرية، تعيش اليوم حالة قلق وجودية تهدد كيانها من عدة جبهات، إحدى هذه الجبهات هي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، التي استطاعت بعد تحرير القطاع عام 2005، من بناء قوة عسكرية تواجه جيش الاحتلال بصلابة وتكتيكات منظمة، مستخدمة أسلحة متطورة بمهارة الجيوش الكلاسيكية، لكن بأساليب جيش العصابات، وما بات يعرف حديثاً بالحرب الهجينة، وقد اختبر جيش الاحتلال قوة المقاومة الفلسطينية في ثلاث حروب (2008 ، 2012 ،2014 )، والتي انتصرت فيها المقاومة، محققة معادلات ردع، أثبتت وجودها في محطات عدة، حيث باتت المواجهات المباشرة بين المقاومة الفلسطينية و جيش الاحتلال، لا تتعدى 48 ساعة.
أما أبرز هذه المعادلات فهي: أولاً الصواريخ التي تستهدف المستوطنات مقابل القصف على غزة، ثانياً وحدات البالونات الحارقة الفلسطينية مقابل حصار الاحتلال المفروض على القطاع.
الصواريخ على المستوطنات مقابل القصف على غزة
مرت صناعة الصواريخ المحلية في غزة، واستخدامها بالقصف على المستوطنات الإسرائيلية، بعدة مراحل تطويرية رئيسية، حيث بدأت المرحلة الأولى، من تصنيع صواريخ بمديات تصل من 2 كلم ف 10 كلم، الى 16 كلم، فقامت عام2001 بقصفه على مستوطنة "سديروت"، ثم تتابع تطوير الصواريخ المحلية الصنع بالمدى حتى باتت تصل من 20 كلم إلى 45 كلم، مع قدرة تدميرية أكبر.
أما في عام 2012، فقد قامت سرايا القسام بالكشف عن صاروخ محلي الصنع، سمته "M75" مستوحى من صواريخ الفجر الإيرانية، ويبلغ مداه 75 كلم، استطاعت المقاومة بقصفه، إصابة عاصمة كيان الاحتلال "تل أبيب" لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
أما في عام 2014، فقد بدأت المرحلة الثانية من مراحل تطور الصناعات المحلية للصواريخ في فلسطين، خلال معركة "العصف المأكول"، فاستخدمت المقاومة عدة أنواع من الصواريخ الجديدة محلية الصنع، شكلت قفزة نوعية على مستوى المدى والقدرة التدميرية. من صاروخ "سجيل 55" الذي يصل مداه إلى 55 كيلومتر، والذي تم استخدامه في قصف مناطق عديدة وسط فلسطين المحتلة، إلى صاروخ R160 الذي تم به قصف مدينتي الخضيرة وحيفا، ويصل مداه إلى ما يقرب من 160 كيلومتر، فشكل هذا الصاروخ صدمة كبيرة لأوساط جيش الإحتلال، نظراً لقدرته التدميرية ومداه الممتاز. وشاركت سرايا القدس في هذه المعركة أيضاً، بصواريخ تحمل اسم "براق"، بنسختين يبلغ مدى النسخة الأولى 70 كيلومتر، بينما يبلغ مدى الثانية 100 كيلومتر، واستهدفت بهما مدينة "تل أبيب".
وخلال هذه الفترة وما بعدها، تم الإعلان عن عدة أنواع من الصواريخ المحلية، صنعتها فصائل المقاومة الأخرى مثل ألوية الناصر صلاح الدين.
أما في العام 2017 فأعلنت سرايا القدس عن عدة أنواع من الصواريخ المحلية، من بينها صاروخ "بدر 1" الذي استخدمته في استهداف مدينة عسقلان وعدة مستوطنات في فلسطين المحتلة، ويتميز هذا الصاروخ يتميز بالدقة العالية في إصابة الأهداف، مع قدرة تدميرية كبيرة.
وما يميز سلاح الصواريخ الفلسطينية المتطور والمصنع محلياً، هو سرعة عملية إطلاقه، لاعتماده على الوقود الصلب، كما يتميز بإمكانية ضربه عبر راجمات توضع تحت الأرض، بطريقة تمنع رصدها من قبل الطيران الإسرائيلي الإستطلاعي والحربي، كما أن الصاروخ ينطلق بسرعة عالية، تمنع أجهزة الرصد الإسرائيلية، وأنظمة الدفاع الجوي للعدو من اعتراضه. والتطور التراكمي في المديات والقدرة التدميرية، يدفع كيان العدو إلى أخذها في الحسبان، عند تخطيطه لأي عمل عسكري.
وحدات البالونات الحارقة
هي طريقة قديمة طورّها مقاومو غزة، في مواجهة جيش الاحتلال، خلال مسيرات العودة عام 2018. وقد تورطت في مراحل عديدة، فمن مجرد طائرات ورقية تحرق الحقول والمزارع، القريبة إلى القطاع، تطورت إلى بالون حارق يصل الى أماكن أبعد من الطائرات، إلى أن أصبح بالونات تحمل متفجرات.
هذه الفكرة أرّقت جيش الاحتلال كثيراً، لأنه عند سقوطها على الأرض تتسبب بحرائق يصعب إطفاؤها بسهولة، كما أنه لا يستطيع إسقاطها بواسطة الأسلحة الحديثة، مثل أنظمة الدفاع الجوي. ويتطلب مكافحتها جهداً بشرياً وتكاليف مادية باهظة، مقابل قيمتها الزهيدة. وبعدما كان إطلاقها، حركة شبابية عفوية، قامت الفصائل الفلسطينية، باستخدامها كوسيلة ضغط على الاحتلال، فعندما يشتد الحصار على القطاع، تقوم بالإشارة الى أفرادها بإطلاق هذه البالونات، باتجاه المستوطنات الواقعة في منطقة غلاف غزة، مما يدفع حكومة الاحتلال إلى طلب الوساطة المصرية، عبر التفاهم على وقف اطلاق البالونات مقابل إدخال المعونات المادية و الغذائية إلى غزة.
وهنا يظهر أن الإبداع بالفكرة الخلاقة، يمكن أن يساهم في عمليات مقاومة الاحتلال، ضمن معادلة "لا حرب شاملة، ولا هدوء مجاني" في ظل حصار ظالم.
الكاتب: غرفة التحرير